قوله : ( يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى ) [ 177 ] إلى قوله : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ 178 ] .
معناه : فرض عليكم القصاص في قتلاكم( {[5382]} ) .
ف " كتب " بمعنى " فرض " ، ومنه قوله : ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ )( {[5383]} ) أي : فرضته .
وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ .
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " قَضَى " من قوله : ( قُل لَّنْ يُّصِيبَنَأ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا )( {[5384]} ) . /أي : قضى علينا .
ويكون " كتب " بمعنى جعل كقوله : ( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِيمَانَ )( {[5385]} ) .
وكقوله : ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )( {[5386]} ) . و( فَسَأَكْتُبُهَا لِلذِينَ يَتَّقُونَ )( {[5387]} ) .
ويكون " كَتَبَ " بمعنى " أَمَرَ " كقوله : ( ادْخُلُوا الاَرْضَ المُقَدَّسَةَ التِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )( {[5388]} )( {[5389]} ) .
والمعنى : فرض عليكم أن تقتصوا ممن قتل أولياءكم إن شئتم ذلك ، وليس القصاص بفرض( {[5390]} ) عليهم ، إنما هو مباح لهم ، وإن شاء الولي عفا وإن شاء أخذ الدية .
قال ابن عباس : " كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن فيهم الدية ، ثم بين( {[5391]} ) تعالى كيف القصاص ، فقال : ( الحُرُّ/بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالاُنْثَى بِالاُنْثَى )( {[5392]} ) ، أي : يقتل هذا بهذا .
ولا يقتل حر في عبد عند مالك( {[5393]} ) والشافعي( {[5394]} ) .
وهذه الآية عند ابن عباسنسوخة بقوله : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) الآية( {[5395]} )( {[5396]} ) ، لأن آية البقرة توجب ألا تقتل امرأة قتلت رجلاً ، ولا رجل قتل امرأة ، ولا عبد قتل حراً ، وآية المائدة توجب قتل النفس بالنفس ، فيلزم منها يقتل الحر بالعبد لكن( {[5397]} ) فيها تخصيص( {[5398]} ) .
قال ابن عباس : " كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فأنزل الله ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ )( {[5399]} ) فجعل الله الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد( {[5400]} ) ، -رجالَهم ونساءَهم- في النفس وفيما دون النفس " ( {[5401]} ) .
وتأول أبو عبيد على ابن عباس أن مذهبه : أن آية المائدة ليست بناسخة لآية البقرة ، وكأن آية المائدة مفسرة لآية البقرة ، فبينت آية المائدة أن أنفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكوراً كانوا أو إناثاً ، وأن أنفس( {[5402]} ) المماليك متساوية أيضاً فيما بينهم( {[5403]} ) وأنه لا قصاص للمماليك( {[5404]} ) على الأحرار ، فالآيتان محكمتان عنده إحداهما مبينة للأخرى مفسرة لها( {[5405]} ) .
وقال الشعبي : " نزلت آية البقرة في قوم اقتتلوا فقتل بينهم خلق كثير ، فقالت الغالبة العزيزة من القبيلتين المتقاتلتين : " لا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم ولا بالأنثى منا إلا الذكر منهم " فأنزل الله : ( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالاُنْثَى بِالاُنْثَى )( {[5406]} ) . وقال السدي : " نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى ، فأمر النبي [ عليه السلام ]( {[5407]} ) أن يقاص بينهما ، ديات النساء بديات النساء والرجال بالرجال " ( {[5408]} ) .
فالآية على هذا( {[5409]} ) محكمة مخصوصة .
/وقال الحسن : " الآية على التراجع : إذا قتل رجل امرأة ، كان أولياء المرأة بالخيار ، إن شاؤا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية ، وإن شاؤا أخذوا( {[5410]} ) نصف الدية( {[5411]} ) . وإذا قتلت امرأة رجلاً( {[5412]} ) ؛ فإن شاء( {[5413]} ) أولياء الرجل قتلوا المرأة( {[5414]} ) وأخذوا نصف الدية( {[5415]} ) ، وإن شاؤا أخذوا( {[5416]} ) الدية كاملة( {[5417]} ) . وإذا قتل حر عبداً ؛ فإن شاء( {[5418]} ) مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية( {[5419]} ) الدية بعد قيمة العبد .
وإذا قتل عبد( {[5420]} ) رجلاً حراً ، فإن شاء( {[5421]} ) أولياء الرجل قتلوا العبد( {[5422]} ) ، ويأخذون بقية( {[5423]} ) الدية( {[5424]} ) " .
وقال مالك : " أحسن ما سمعت في هذه الآية يراد بها الجنس : الذكر والأنثى فيه سواء " ( {[5425]} ) ، يعني الأحرار وأعاد ذكر الأنثى إنكاراً( {[5426]} ) لما كان في الجاهلية .
ولا يقتل الحر بالعبد عنده ، ولكن عليه قيمته .
ولا يقتل المسلم بالذمي ، وعليه الدية في العمد والخطأ . وبذلك قال عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة وابن دينار والشافعي( {[5427]} ) . ودليل ذلك إجماعهم أنه لا يقتص للعبد من الحر/فيما دون النفس ، فكانت النفس كذلك .
/فأما قوله : ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) فإنما هو إخبار( {[5428]} ) عما فَرَضهُ( {[5429]} ) الله على بني إسرائيل . وقد أجمع على القصاص بين الأحرار ، فدخل في ذلك قتل الأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى من الأحرار .
وقد قال ابن المسيب والشعبي( {[5430]} ) والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي : " يقتل( {[5431]} ) الحر بالعبد بدليل قوله : ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [ المائدة : 47 ]( {[5432]} ) ، ولقول النبي [ عليه السلام ]( {[5433]} ) : " المُؤْمِنون تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلِيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " ( {[5434]} ) ، والعبد المؤمن كالحر ، وقالوا : لما( {[5435]} ) لم يكن قوله : ( الأُنْثَى بالأُنثَى ) بمانع من قتل الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى( {[5436]} ) ، كذلك لا يمنع قوله : ( العَبْدُ بِالعَبْدِ ) مِن قتل الحر بالعبد . وهذا باب واسع يستقصى إن شاء الله في كتاب الأحكام( {[5437]} ) .
ثم قال تعالى : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنَ اَخِيهِ شَيْءٌ )( {[5438]} ) [ 177 ] .
أي فمن ترك له ولي المقتول من الدية شيئاً .
( فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ ) [ 177 ] أي فليتبع العافي القاتل بالمعروف( {[5439]} ) .
وقوله : ( وَأَدَاءٌ اِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) [ 177 ] .
أي : وليؤد القاتل إلى الولي ما قَبِله من الدية بإحسان . وهذا قول مروي عن ابن عباس( {[5440]} ) .
[ فَالهَاءُ في " لَهُ " تعود على هذا القول ]( {[5441]} ) للقاتل( {[5442]} ) .
والهاء في " أخيه " للقاتل أيضاً( {[5443]} ) .
والهاء في " إِلَيْهِ " لولي المقتول العافي .
و " مَنْ " اسم القاتل ، و " الأخ " ولي الدم( {[5444]} ) .
/قال ابن عباس : " كان القصاص في بني إسرائيل ، ولم تكن الدية ، فأباح الله لهذه الأمة أخذ الدية تخفيفاً " ( {[5445]} ) .
وقيل : المعنى : " فمن قبل منه ولي المقتول في العمد الدية فلْيَتْبعْ الولي أخذَ الدية بمعروف ، وليؤد القاتل إلى الولي الدية بإحسان إذا قبلها منه في العمد ، ولم يُطالبه بالقصاص " ( {[5446]} ) .
وهو( {[5447]} ) أيضاً مروي عن ابن عباس( {[5448]} ) ، وعن جابر بن( {[5449]} ) زيد( {[5450]} ) ، وهو أبين في نص الآية ، والهاءات على حالها .
قال مجاهد : " هو أن يعفو الولي عن الدم ويأخذ الدية " ( {[5451]} ) . وهو القول الذي قبله .
وقال الحسن : " على هذا الطالب أن يطلب بمعروف ، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان " ( {[5452]} ) . وهو قول الشعبي وقتادة وعطاء وغيرهم ، وقالوا كلهم : " العفو أن يأخذ الدية في العمد " ( {[5453]} ) .
/وقيل : المعنى : فمن عفي( {[5454]} ) له من الواجب له على أخيه من قصاص وَليِّه شيء ، فاتباع من الولي بمعروف وأداء من القاتل إلى الولي بإحسان( {[5455]} ) . وهو قول مالك( {[5456]} ) .
فالهاء في " لَهُ " على هذا القول تعود على ولي المقتول ، والهاء في " أَخيهِ " للولي . و " مَن " اسم ولي الدم ، و " الأخ " اسم القاتل( {[5457]} ) .
وفي هذه الآية نظر يطول( {[5458]} ) تقصيه . وجملة الاختلاف فيها( {[5459]} ) أن المعفو( {[5460]} ) له عند مالك وغيره ولي الدم ، والعافي القاتل ، وعفى عنه بمعنى يسر ، والمعفو له [ عند غير مالك القاتل ، والعافي ولي ]( {[5461]} ) الدم . وعفا( {[5462]} ) بمعنى ترك( {[5463]} ) .
هذا اختصار معنى الاختلاف في الآية فافهمه .
و " الأخ " عند مالك القاتل ، وهو( {[5464]} ) عند غيره ولي الدم .
و " مَنْ " على قول مالك اسم ولي الدم( {[5465]} ) . وعند غيره اسم القاتل( {[5466]} ) .
قال أبو محمد : انظر كيف سمّى( {[5467]} ) القاتل عمداً أخا( {[5468]} ) الولي( {[5469]} ) ، ولم يُخرجه بالقتل عن أخوة الإسلام .
ثم قال تعالى : ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) [ 177 ] .
أي : ذلك الذي حكمنا به في هذه الآية من إباحتي( {[5470]} ) الدية في العمد ولم أبح ذلك لغيركم من الأمم تخفيفٌ من ربكم عليكم ، خصصتُكم( {[5471]} ) به دون غيركم من الأمم ، ورحمة من ربكم لكم .
وذكر ابن بكير( {[5472]} ) أن العافي هو القاتل ، وأن أولياء المقتول مخيرون في قبول الدية أو القتل( {[5473]} ) . قال : " ألا تراه قال : ( وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ ) [ البقرة : 178 ] .
وقيل : إن هذه الآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية .
ثم قال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ اَلِيمٌ ) [ 177 ] .
أي : ( {[5474]} ) مَن قتل بعد أخ الدِّية فله/ عذاب مؤلم في الآخرة ، وحكمه أن يقتل( {[5475]} ) ولا تقبل منه الدية .
وقيل : العذاب الأليم هنا( {[5476]} ) القتل( {[5477]} ) .
/وقيل : هو شيء إلى السلطان يعاقبه بما شاء( {[5478]} ) .
وقال الحسن : " تؤخذ منه الدية التي أخذ ، ولا يقتل " ( {[5479]} ) .
وروي عن النبي [ عليه السلام ]( {[5480]} ) أنه قال : " تُقْسِمُ أَلاَّ يُعْفَى عَنْ رَجُلٍ عَفَا عَنِ الدَّمِ ، وأَخَذَ الدِّيَةَ ، ثُمَّ عَدَا فَقَتَلَ " ( {[5481]} ) .