بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

ثم قال تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 ) }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الْقِصاصُ فِي الْقَتْلَى } ، يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص . فإن قيل : الفرض على من يكون ؟ على الولي أو على غيره ؟ قيل له : الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه ، بأن يقتضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي ، لأن الله تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ؛ ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص ، فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك . وهو قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } ، أي فرض عليكم إذا كان في القتل عمداً .

{ الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى } . قال بعضهم : كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد ، ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر ، ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ] . وقال بعضهم هي غير منسوخة ، لأنه قد ذكر هذه الآية : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ولم يذكر في هذه الآية : أن العبد لو قتل حراً ما حكمه ، فبيّن في آية أخرى وهو قوله : { النفس بالنفس } . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية ، فكان بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الأخرى فقالوا : لنقتلن بالعبد منا الحر منكم ، وبالمرأة الرجل منكم ، وبالرجل منا الرجلين منكم ؛ فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك ، فنزلت هذه الآية : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .

ثم قال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء } ، أي ترك ولي المقتول من أخيه : أي القاتل ولم يقتله وأخذ الدية . { فاتباع بالمعروف } ، يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه ، وأمر بالمطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله : { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } . وقال القتبي { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء } قال : قبول الدية في العمد والعفو عن الدم . { فاتباع بالمعروف } ، أي مطالبة جميلة { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } لا يبخسه ولا يمطله ، معناه ولا يدفعه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر ملأ فيتبعه بالمعروف ، والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان .

{ ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ، لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية ، فجعل الله تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفاً لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا .

وقال بعض الناس : إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل ، وهو قول الشافعي ، وقال أصحابنا : ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل . وليس في هذه الآية دليل ، أن له أن يأخذ الدية بكره منه ، وفيها دليل أن له أن يقبل الدية وإذا رضي القاتل وَاصْطَلَحَا على ذلك .

ثم قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى مِن بَعْدِ ذلك } ، يعني أن يقتل بعد ما يأخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وجع . وقال قتادة : يقتل ولا تقبل منه الدية إذا اعتدى ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا أَعْفِي عَنْ أحَدٍ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ » ولكن معناه عندنا : أنه إذا طلب الولي القتل ، فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه ، لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول ، لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني .