الأولى : روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال : " كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية ، فقال اللّه لهذه الأمة : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء " فالعفو أن يقبل الدية في العمد " فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " مما كتب على من كان قبلكم " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " قتل بعد قبول الدية " . هذا لفظ البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو [ قال ]{[1485]} سمعت مجاهدا [ قال ]{[1486]} سمعت ابن عباس [ يقول ]{[1487]} : وقال الشعبي في قوله تعالى : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال : أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا ، نقبل بعبدنا فلان بن فلان ، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، ونحوه عن قتادة .
الثانية : قوله تعالى : " كتب عليكم القصاص " " كتب " معناه فرض وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جرُّ الذيول
وقد قيل : إن " كتب " هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء . والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار . وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه " فارتدا على آثارهما قصصا " [ الكهف : 64 ] . وقيل : القص القطع ، يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص ، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به ، يقال : أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه ، أي اقتص منه .
الثالثة : صورة القصاص هو أن القاتل فُرِض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره ، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه السلام : ( إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول{[1488]} الجاهلية ) . قال الشعبي وقتادة وغيرهما : إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد ، قتله عبد قوم آخرين قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا ، وإذا قتل لهم وضيع قالوا : لا نقتل به إلا شريفا ، ويقولون : [ القتل أوقى للقتل ] بالواو والقاف ، ويروي [ أبقى ] بالباء والقاف ، ويروى [ أنفى ] بالنون والفاء ، فنهاهم اللّه عن البغي فقال : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد " الآية ، وقال " ولكم في القصاص حياة " [ البقرة : 179 ] . وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم .
الرابعة : لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر ، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك ، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص ، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود . وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء ، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح ، على ما يأتي بيانه . فإن قيل : فإن قوله تعالى " كتب عليكم " معناه فرض وألزم ، فكيف يكون القصاص غير واجب ؟ قيل له : معناه إذا أردتم ، فاعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح . والقتلى جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة ، وهو مما يدخل على الناس كرها ، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى ، وشبههن .
الخامسة : قوله تعالى : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " الآية . اختلف في تأويلها ، فقالت طائفة : جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " [ المائدة : 45 ] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة ، قاله مجاهد ، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس . وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية " المائدة{[1489]} " وهو قول أهل العراق .
السادسة : قال الكوفيون والثوري : يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، واحتجوا بقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " فعم ، وقوله : " وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس " [ المائدة : 45 ] ، قالوا : والذمي مع المسلم{[1490]} متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإن الذمي مَحْقُونُ الدم على التأبيد ، والمسلم كذلك ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام ، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي ، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم ، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه . واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به ، وهو قول داود ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما ، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة . السابعة : والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد ، للتنويع والتقسيم في الآية . وقال أبو ثور : لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك ، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض . وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد . وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، ويتصرف فيه الحر كيف شاء ، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة .
قلت : هذا الإجماع صحيح . وأما قوله أولا : " ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض " فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء ، واستدل داود بقوله عليه السلام : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد . وسيأتي بيانه في " النساء{[1491]} " إن شاء اللّه تعالى .
السابعة : والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : ( لا يقتل مسلم بكافر ) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب . ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر ، لأنه منقطع ، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا . قال الدارقطني : " لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث . والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله " .
قلت : فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري ، وهو يخصص عموم قوله تعالى : " كتب عليكم القصاص في القتلى " الآية ، وعموم قوله : " النفس بالنفس " [ المائدة : 45 ] .
الثامنة : روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا ، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا ، وقالا : إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها . روى هذا الشعبي عن علي ، ولا يصح ؛ لأن الشعبي لم يلق عليا . وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا : إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود ، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي . وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور ، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور ، وقتل ذا يدين وهو أشل ، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس ، ويكافئ الطفل فيها الكبير . ويقال لقائل ذلك : إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية ، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص ، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص ، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس ، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه . وإذا قتل الحر العبد ، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد ، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن ، علي والحسن ، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا .
التاسعة : وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء . وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات . قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس . وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة : لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى ، على ما تقدم .
العاشرة : قال ابن العربي : ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا : يقتل الحر بعبد نفسه ، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من قتل عبده قتلناه ) وهو حديث ضعيف . ودليلنا قوله تعالى : " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل{[1492]} " [ الإسراء : 33 ] والولي ههنا السيد ، فكيف يجعل له سلطان على نفسه " . وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال ، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ( ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ) . فإن قيل : فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا : ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج ، إذ النكاح ضرب من الرق ، وقد قال ذلك الليث بن سعد . قلنا : النكاح ينعقد لها عليه ، كما ينعقد له عليها ، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها ، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها ، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله ، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة ، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين .
قلت : هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح ، أخرجه النسائي وأبو داود ، وتتميم متنه : ( ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) . وقال البخاري عن علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح ، وأخذ بهذا الحديث . وقال البخاري : وأنا أذهب إليه ، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان ، وحسبك بهما . ويقتل الحر بعبد نفسه . قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل : إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة ، واللّه أعلم . [ واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس ، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران{[1493]} ومالك والشافعي وأبو ثور . وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة : لا قصاص بينهم إلا في النفس . قال ابن المنذر : الأول أصح ]{[1494]} .
الحادية عشرة : روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال : حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه . قال أبو عيسى : " هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده بصحيح ، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح ، والمثنى يضعف في الحديث ، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم . وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا ، وهذا الحديث فيه اضطراب ، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به ، وإذا قذفه لا يحد " . وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا ، فقالت طائفة : لا قود عليه وعليه ديته ، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد . وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم : يقتل به . وقال ابن المنذر : وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة ، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد " ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية ، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة . وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده ، للعمومات في القصاص . وروي مثل ذلك عن مالك ، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن . قلت : لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره{[1495]} مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ ، أنه يقتل به قولا واحدا . فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله ، ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل به وتغلظ الدية ، وبه قال جماعة العلماء . ويقتل الأجنبي بمثل هذا . ابن العربي{[1496]} : " سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأب بابنه ، لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه ؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم ، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه ، ثم أي فقه تحت هذا ، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك{[1497]} . وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( لا يقاد الوالد بولده ) وهو حديث باطل ، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة{[1498]} ، وقالوا{[1499]} : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال : إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه ، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود ، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله " . قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : إذا قتل الابن الأب قتل به .
الثانية عشرة : وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله : لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال : لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد . وقد قال تعالى : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " [ المائدة : 45 ] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ، ردّاً على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة ، وذلك بأن يقتل من قتل ، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا . وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية{[1500]} ب " عبداللّه بن خباب " فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا ، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة ، وأخبر علي بذلك قال : ( اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، ثلاث مرات ، فقال علي لأصحابه : دونكم القوم ، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ) خرج الحديثين الدارقطني في سننه . وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار ) . وقال فيه : حديث غريب . وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي ، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم . [ وقال ابن المنذر : وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين : لا يقتل اثنان بواحد . روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك ، قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ]{[1501]} .
الثالثة عشرة : روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ) ، لفظ أبي داود . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وروي عن أبي شريح الخزاعي{[1502]} عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ) . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم ، وهو قول أحمد وإسحاق .
الرابعة عشرة : اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد ، فقالت طائفة : ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل . يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن ، ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه ، وهو نص في موضع الخلاف ، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه ؛ لأن فرضا عليه إحياء نفسه ، وقد قال اللّه تعالى : " ولا تقتلوا أنفسكم{[1503]} " [ النساء : 29 ] . وقوله : " فمن عفي له من أخيه شيء " أي ترك له دمه في أحد التأويلات ، ورضي منه بالدية " فاتباع بالمعروف " أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان ، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس ، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم ، على ما يأتي بيانه . وقال آخرون : ليس لولي المقتول إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل ، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه ، وبه قال الثوري والكوفيون . واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع{[1504]} حين كسرت ثنية المرأة ، رواه الأئمة قالوا : فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال : ( القصاص كتاب اللّه ، القصاص كتاب اللّه ) ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص ، والأول أصح ، لحديث أبي شريح المذكور . وروى الربيع عن الشافعي قال : أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال : وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود ) . فقال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال : أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول : تأخذ به نعم آخذ به ، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه ، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك ، قال : وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " اختلف العلماء في تأويل " من " و " عفي " على تأويلات خمس :أحدها : أن " من " يراد بها القاتل ، و " عفي " تتضمن عافيا هو ولي الدم ، والأخ هو المقتول ، و " شيء " هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء . والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك . والمعنى : أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف ، ويؤدي إليه القاتل بإحسان .
الثاني : وهو قول مالك أن " من " يراد به الولي " وعفي " يسر ، لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، و " شيء " هو الدية ، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر . وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه . وقد روي عن مالك هذا القول ، ورجحه كثير من أصحابه . وقال أبو حنيفة : إن معنى " عفي " بذل ، والعفو في اللغة : البذل ، ولهذا قال اللّه تعالى : " خذ العفو{[1505]} " [ الأعراف : 199 ] أي ما سهل . وقال أبو الأسود الدؤلي :
[ وقال صلى اللّه عليه وسلم : ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني شهد اللّه على عباده . فكأنه قال : من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف . وقال قوم : وليؤد إليه القاتل بإحسان ، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة " المائدة " " فمن تصدق به فهو كفارة له " [ المائدة : 45 ]{[1506]}فندب إلى رحمة العفو والصدقة ، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان ]{[1507]} .
وقد قال قوم : إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة . ومعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون " عفي " بمعنى فضل .
روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال : كان بين حيين من العرب قتال ، فقتل من هؤلاء وهؤلاء . وقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة ، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عليه السلام : ( القتل سواء ) فاصطلحوا على الديات ، ففضل أحد الحيين على الآخر ، فهو قوله : " كتب " إلى قوله : " فمن عفي له من أخيه شيء " يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان العفو هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ .
وتأويل خامس{[1508]} : وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، و " عفي " في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل .
السادسة عشرة : هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب ، وحسن القضاء من المؤدي ، وهل ذلك على الوجوب أو الندب . فقراءة الرفع تدل على الوجوب ، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف . قال النحاس : " فمن عفي له " شرط والجواب ، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف . قال النحاس : " فمن عفي له " شرط والجواب " فاتباع " وهو رفع بالابتداء ، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف . ويجوز في غير القرآن " فاتباعا " و " أداء " بجعلهما مصدرين . قال ابن عطية : وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " فاتباعا " بالنصب . والرفع سبيل للواجبات ، كقوله تعالى : " فإمساك بمعروف{[1509]} " [ البقرة : 229 ] . وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا ، كقوله : " فضرب الرقاب{[1510]} " [ محمد : 4 ] .
السابعة عشرة : قوله تعالى : " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية ، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا .
قوله تعالى : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " شرط وجوابه ، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم{[1511]} ] قاتل وليه . " فله عذاب أليم " قال الحسن : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية ، حتى يأمن القاتل ويخرج ، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية . واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية ، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي : هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة . وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو . وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( لا أعفى{[1512]} من قتل بعد أخذ الدية ) . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى . وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل ، فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ) .