التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (61)

هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات . فأما وصف جعلهم لله البناتِ اللاتي يأنفون منها لأنفسهم ، ووصف ذلك بأنه حُكم سوء ، و وصف حالهم بأنها مَثَل سوء ، وعرفهم بأخصّ عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم .

والظّلم : الاعتداء على الحقّ . وأعظمه الاعتداء على حقّ الخالق على مخلوقاته ، وهو حقّ إفراده بالعبادة ، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعدّ إلى مفعول نحو { ظلموا أنفسهم } [ سورة آل عمران : 117 ] مراداً منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن ، وهو المراد هنا من هذا الإنذار . وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريباً فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه .

والتعريف في { الناس } يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس ، لأن ذلك أنسب بمقام الزجر ، فليس قوله تعالى : { الناس } مراداً به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله : { ليكفروا بما آتيناهم } [ سورة النحل : 55 ] وما بعده من الضمائر ، وبذلك لا يكون لفظ { الناس } إظهاراً في مقام الإضمار .

وضمير { عليها } صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دالّ عليها . وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ سورة ص : 32 ] يعني الشمس ، ويقولون : أصبحت باردة ، يريدون الغَداة ، ويقول أهل المدينة : ما بين لابتيها أحد يفعل كذا ، يريدون لابتي المدينة .

والدّابة : اسم لما يدبّ على الأرض ، أي يمشي ، وتأنيثه بتأويل ذات . وخصّ اسم دابة } في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض .

وحرف { لو } حرف امتناع لامتناععٍ ، أي حرف شرط يدلّ على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه . وشرط { لو } ملازمٌ للزمن الماضي فإذا وقع بعد { لَوْ } مضارع انصرف إلى الماضي غالباً .

فالمعنى : لو كان الله مؤاخذاً الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدوابّ معهم ، أي ولكنه لم يؤاخذهم .

ودليل انتفاء شرط { لو } هو انتفاء جوابها ، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة ، فإن الناس والدوابّ ما زالوا موجودين على الأرض .

ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدوابّ أن الله خلق الناس ليعبدوه ، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها ، لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ سورة الذاريات : 56 ] ، وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى : { وإذ أخذ ربّك من بني ءادم من ظهورهم ذرّياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا } [ سورة الأعراف : 172 ] .

فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجِدَه ، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وُجد على شرطه ، فاستحقّ المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء .

وبذلك تعيّن أن المراد من الظلم في قوله تعالى : { بظلمهم } الإشراكُ أو التعطيل . وأما ما دون ذلك من الاهتداء على حقّ الله بمعصية أمره ، أو على حقوق المخلوقات باغتصابها فهو مراتب كثيرة ، منها اعتداء أحد على وجود إنسان آخر محترم الحياة فيُعدمه عمداً ، لذلك جزاؤه الإفناء لأنه أفنى مماثله ، ولا يتعدّاه إلى إفناء من معه ، وما دون ذلك من الظلم له عقاب دون ذلك ، فلا يستحقّ شيء غير الشرك الإهلاكَ ، ولكنّ شأن العقاب أن يقصر على الجاني .

فوجه اقتضاء العقاببِ على الشرك إفناءَ جميع المشركين ودوابّهم أن إهلاك الظالمين لا يحصل إلا بحوادث عظيمة لا تتحدّد بمساحة ديارهم ، لأن أسباب الإهلاك لا تتحدّد في عادة نظام هذا العالم ، فلذلك يتناول الإهلاكُ الناس غير الظالمين ويتناول دوابّهم .

وإذ قد كان الظلم ، أي الإشراك لم تخل منه الأرض لزم من إهلاك أهل الظلم سريان الإهلاك إلى جميع بقاع الأرض فاضمحلّ الناس والدوابّ فيأتي الفناء في قرون متوالية من زمن نوح مثلاً ، فلا يوجد على الأرض دابّة في وقت نزول الآية .

فأما من عسى أن يكون بين الأمّة المشركة مِن صالحين فإن الله يقدّر للصالحين أسباب النّجاة بأحوال خارقة للعادة كما قال تعالى : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسّهم السوء ولا هم يحزنون } [ سورة الزمر : 61 ] . وقد أخبر الله تعالى بأنه نجّى هوداً والذين آمنوا معه ، وأخبر بأنه نجّى أنبياء آخرين . وكفاك نجاة نوح عليه السلام والذين آمنوا معه من الطوفان في السفينة .

وقد دلّ قوله تعالى : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } أن تأخيرهم متفاوت الآجال ، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمُر بهم الأرض ، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم .

واقتضى قوله تعالى : { من دابة } إهلاكَ دوابّ الناس معهم لو شاء الله ذلك ، لأن استئصال أمّة يشتمل على استئصال دوابّها ، لأنّ الدوابّ خلقت لنفع الناس فلا بدع أن يستأصلها الله إذا استأصل ذويها .

والاقتصار على ذكر دابّة في هذه الآية إيجاز ، لأنه إذا كان ظلم الناس مفضياً إلى استئصال الدوابّ كان العِلم بأنه مفض إلى استئصال الظالمين حاصلاً بدلالة الاقتضاء .

وهذا في عذاب الاستئصال ، وأما ما يصيب الناس من المصائب والفتن الوارد فيه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة } [ سورة الأنفال : 25 ] فذلك منوط بأسباب عادية ، فاستثناء الصالحين يقتضي تعطيل دواليب كثيرة من دواليب النظام الفطري العام ، وذلك لا يريد الله تعطيله لما يستتبع تعطيله من تعطيل مصالح عظيمة والله أعلم بذلك .

فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله يقول : إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم يُبعثون على نيّاتهم ، أي يكون للمحسن الذي أصابه العذاب تبعاً جزاءٌ على ما أصابه من مصيبة غيره .

وإنما الذي لا ينال البريء هو العقاب الأخروي الذي جعله الله جزاء على التكليف ، وهو معنى قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ سورة الأنعام : 164 ] .

وفي هذه الآية إشارة إلى أن الدوابّ التي على الأرض مخلوقة لأجل انتفاع الإنسان ، فلذلك لم يكن استعمال الإنسان إيّاها فيما تصلح له ظلماً لها ، ولا قتلها لأكلها ظلماً لها .

والمؤاخذة : الأخذ المقصود منه الجزاء ، فهو أخذ شديد ، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة ، فدلّ على أن المؤاخذة المنتفية بلو } هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة ، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب .

ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } . فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى : { ما ترك عليها من دابة } .

والأجل : المدّة المعيّنة لفعل ما . والمسمّى : المعيّن ، لأن التسمية تعيين الشيء وتمييزه ، وتسمية الآجال تحديدها .

وتقدم نظير هذه عند قوله تعالى : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } في سورة الأعراف ( 34 ) .