فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (61)

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( 61 ) }

ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظم كفرهم ، بين سعة كرمه وحلمه ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة فقال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم } ، المراد بالناس هنا : الكفار ، أو جميع العصاة ، والباء للسببية . { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } ، أي : على الأرض ، وإن لم تذكر ، فقد دل عليها ذكر الناس أو الدابة ، { مِن دَآبَّةٍ } ، قط ، بل أهلكها بالمرة شؤم ظلم الظالمين ، فإن الجميع مستقرون على الأرض ، والمراد بالدابة : الكافر ، وقيل : كل ما دب .

وقد قيل على هذا : كيف يعم بالهلاك ؟ وفيهم من لا ذنب له ، وأجيب بأن إهلاك الظالم انتقاما منه ، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف ، فلأجل توفير أجره ، وإن كان من غيرهم ، فبشؤم ظلم الظالمين ، ولله الحكمة البالغة ، { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ، ومثل هذا قوله : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } .

وفي معنى هذه الآية أحاديث منها . ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم يقول : ( إذا أراد الله بقوم عذابا ، أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على نياتهم . ) {[1050]} وكذلك حديث الجيش الذي يخسف بهم في البيداء ، وفي آخره أنهم يبعثون على نياتهم{[1051]} ، وقد قدمنا عند تفسير قوله سبحانه : { واتقوا فتنة } ، الآية تحقيقا حقيقا بالمراجعة له .

قال سعيد بن جبير : ما ترك عليها من دابة : ما سقاهم المطر . وعن السدي نحوه ، أي : يمسك المطر بسبب ظلمهم ، وانقطاعه يوجب انقطاع النسل ، وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء ، وذلك يستلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس ، وقال قتادة : قد فعل ذلك في زمن نوح ، أهلك الله ما على الأرض من دابة ، إلا ما حمل في سفينته .

وهذا إيذان بأن ما أتوه من القبائح ، فقد تناهى إلا أمد لا غاية وراءه ؛ وعن ابن مسعود قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره . ثم قال : أي والله زمن غرق قوم نوح . وعنه قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ هذه الآية . وعن أنس نحوه .

وعن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه . قال : أبو هريرة بلى والله ، إن الحبارى لتموت هزالا في وكرها من ظلم الظالم . { وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، معلوم معين عند تعالى ، وهو منتهى حياتهم ، وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم ، وفي هذا التأخير حكمة بالغة ، منها الإعذار إليهم ، وإرخاء العنان معهم ، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم .

{ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } ، الذي سماه لهم ، { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ، أي : حقت عليهم كلمة الله في ذلك الوقت ، من دون تقدم عليه ولا تأخر عنه ، والساعة المدة القليلة ، وقد تقدم تفسير هذا وتحقيقه .


[1050]:مسلم 2879 بلفظ (ثم بعثوا على أعمالهم) – البخاري 2558.
[1051]:مسلم 2882 – البخاري كتاب البيوع باب ما ذكر في الأسواق.