التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم ، وفظيع قولهم ، بين غاية كرمه ، وسعة رحمته ، حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة ، فقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } الآية . فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء ، أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس ، والأنبياء من جملة الناس ، فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ، ويؤكد هذا قوله : { ما ترك عليها من دابة } ، فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب ، لم يكن لإفنائهم وجه ، وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد . والجواب : لا نسلم عموم الناس في الآية ؛ لقوله سبحانه في موضع آخر : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ لقمان : 32 ] ، ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس : إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين . وأما قوله : { من دابة } : فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها ، نظيره قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] ، ولو سلم أن المراد بها : كل من يدب عليها ، فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذاباً ، وفي غيرهم امتحاناً ، فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام . وأيضاً من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ، لأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها ؛ لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم . عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النبت ، وفي انقطاع النبت فناء الدواب . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى ، وإلا لم يؤاخذهم بها فرضاً ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك . وفي قوله : { بظلمهم } ، دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية . وجواب الأشاعرة معلوم ، وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضاً المعارضة بالعلم والدواعي ، ووجوب انتهاء الكل إليه . قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة ؛ لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعاً ابتداء بالإجماع ، ولقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ، [ الحج : 78 ] { يريد الله بكم اليسر }[ البقرة : 185 ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " في الإسلام " ملعون من ضر مسلماً " ، ولا أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية ؛ لأن كلمة " لو " وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره . فالآية تقتضي : أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم ، وأنه ترك على ظهرها دابة ، كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل ، فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار ، فإن وجدنا نصاً على كونها مشروعة قضينا به ، تقديماً للخاص على العام ، وإلا قضينا عليها بالحرمة ، بناء على هذا الأصل . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الضرر مشروعاً على وجه يقع جزاء عن جرم سابق ؟ والآية لا تنافي ذلك ؛ لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم . أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليلة قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] ، ومنهم من قال : بناء على القاعدة المذكورة ، إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه ؛ لأن المنع منه ضرر ، والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرماً ؛ لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع . فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس ، إما أن يكون على وفق هذه القاعدة ، أو على خلافها ، والأول باطل ؛ لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني ؛ لأن النص راجح على القياس . ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع . أما قوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } ، فعن ابن عباس في رواية عطاء ، أنه يريد أجل القيامة ؛ لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ . وقيل : أراد منتهى العمر ؛ لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف . واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة : { ما ترك عليها من دابة } ، وفي سورة الملائكة : { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] ، فالهاء كناية عن الأرض ، ولم يتقدم ذكرها ههنا ، والعرب تجوّز ذلك في كلمات ؛ لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع ، منها : الأرض والسماء : " فلان أفضل من عليها ، وأكرم من تحتها " ، ومنها الغداة " إنها اليوم لباردة " . ومنها الأصابع يقول : " والذي شقهن خمساً من واحدة " يعني الأصابع من اليد . وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة ؛ لئلا يلتبس بظهر الدابة ، فكثيراً ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة ، بخلاف سورة " الملائكة " ، فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله : { أو لم يسيروا في الأرض } [ الآية : 44 ] وفي قوله :
{ ولا في الأرض } [ الآية : 44 ] ، فلم يكن ملتبساً . ويمكن أن يقال : لما قال ههنا : { بظلمهم } ، لم يقل : { على ظهرها } ، وحين قال هنالك : { بما كسبوا } ، قال : { على ظهرها } ، احترازاً عن الجمع بين الظاءين ؛ لأنها تقل في الكلام ، وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.