غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (61)

61

التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم ، وفظيع قولهم ، بين غاية كرمه ، وسعة رحمته ، حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة ، فقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } الآية . فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء ، أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس ، والأنبياء من جملة الناس ، فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ، ويؤكد هذا قوله : { ما ترك عليها من دابة } ، فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب ، لم يكن لإفنائهم وجه ، وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد . والجواب : لا نسلم عموم الناس في الآية ؛ لقوله سبحانه في موضع آخر : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ لقمان : 32 ] ، ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس : إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين . وأما قوله : { من دابة } : فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها ، نظيره قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] ، ولو سلم أن المراد بها : كل من يدب عليها ، فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذاباً ، وفي غيرهم امتحاناً ، فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام . وأيضاً من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ، لأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها ؛ لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم . عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النبت ، وفي انقطاع النبت فناء الدواب . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى ، وإلا لم يؤاخذهم بها فرضاً ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك . وفي قوله : { بظلمهم } ، دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية . وجواب الأشاعرة معلوم ، وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضاً المعارضة بالعلم والدواعي ، ووجوب انتهاء الكل إليه . قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة ؛ لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعاً ابتداء بالإجماع ، ولقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ، [ الحج : 78 ] { يريد الله بكم اليسر }[ البقرة : 185 ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " في الإسلام " ملعون من ضر مسلماً " ، ولا أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية ؛ لأن كلمة " لو " وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره . فالآية تقتضي : أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم ، وأنه ترك على ظهرها دابة ، كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل ، فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار ، فإن وجدنا نصاً على كونها مشروعة قضينا به ، تقديماً للخاص على العام ، وإلا قضينا عليها بالحرمة ، بناء على هذا الأصل . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الضرر مشروعاً على وجه يقع جزاء عن جرم سابق ؟ والآية لا تنافي ذلك ؛ لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم . أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليلة قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] ، ومنهم من قال : بناء على القاعدة المذكورة ، إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه ؛ لأن المنع منه ضرر ، والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرماً ؛ لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع . فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس ، إما أن يكون على وفق هذه القاعدة ، أو على خلافها ، والأول باطل ؛ لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني ؛ لأن النص راجح على القياس . ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع . أما قوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } ، فعن ابن عباس في رواية عطاء ، أنه يريد أجل القيامة ؛ لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ . وقيل : أراد منتهى العمر ؛ لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف . واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة : { ما ترك عليها من دابة } ، وفي سورة الملائكة : { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] ، فالهاء كناية عن الأرض ، ولم يتقدم ذكرها ههنا ، والعرب تجوّز ذلك في كلمات ؛ لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع ، منها : الأرض والسماء : " فلان أفضل من عليها ، وأكرم من تحتها " ، ومنها الغداة " إنها اليوم لباردة " . ومنها الأصابع يقول : " والذي شقهن خمساً من واحدة " يعني الأصابع من اليد . وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة ؛ لئلا يلتبس بظهر الدابة ، فكثيراً ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة ، بخلاف سورة " الملائكة " ، فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله : { أو لم يسيروا في الأرض } [ الآية : 44 ] وفي قوله :

{ ولا في الأرض } [ الآية : 44 ] ، فلم يكن ملتبساً . ويمكن أن يقال : لما قال ههنا : { بظلمهم } ، لم يقل : { على ظهرها } ، وحين قال هنالك : { بما كسبوا } ، قال : { على ظهرها } ، احترازاً عن الجمع بين الظاءين ؛ لأنها تقل في الكلام ، وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة .

/خ70