اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (61)

قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } الآية ، لما حكى عن القوم عظيم كفرهم ، وقبيح قولهم ، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل ، والرحمة ، والكرمِ .

قالت المعتزلة : هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى ، بل تكون أفعالاً للعباد ؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم ، فقال - عزَّ وجلَّ - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } ، وأيضاً : لو كان خلقاً لله ؛ لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله ، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم ، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى ؛ ولأنَّ قوله تعالى : " بِظُلمهِمْ " ، الباء فيه تدلُّ على العليَّة ، كما في قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الحشر : 4 ] . وقد تقدَّم الجواب مراراً .

فصل

ظاهر الآية يدلُّ على : أنَّ إقدام الناس على الظُّلم ؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب ، وذلك غير جائزٍ ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس ؟ .

وأجيب بوجهين :

أحدهما : أنَّا لا نسلم أن قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } ، يتناول جميع الدَّوابِّ .

قال الجبائي - رحمه الله- : إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ، ومعصية لعجَّل هلاكهم ، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب ، وإذا هلكوا ؛ فقد بطل نسلهم ، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس ، وإذا [ هلكوا ]{[19911]} ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً ؛ لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد ، وهذا وجهٌ حسن .

الثاني : أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب ، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً ، وفي حق [ غيرهم امتحاناً ]{[19912]} ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عليه الصلاة والسلام .

الثالث : أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت ، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة .

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمع رجُلاً يقول : إن الظَّالم لا يضُرُّ إلاَّ نفسه ، فقال : " لا والله ، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم{[19913]} " .

وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه : كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم ؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ : لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب{[19914]} .

والجواب الثاني : أنَّ المراد بالدَّابة : الكافر ، قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الأعراف : 179 ] ، والكناية في قوله : " عَلَيْهَا " عائدة إلى الأرض ، ولم يسبق لها ذكر ، إلا أن ذكر الدابة يدل على الأرض ، فإن الدابة إنَّمَا تدبُّ على الأرض .

قوله { وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى } ، كي يتوالدوا .

قال عطاءٌ عن ابن عبَّاس _رضي الله عنه_ : يريد أجل يوم القيامة .

وقيل : منتهى العمر : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] .


[19911]:في ب: بطلوا.
[19912]:في ب: غير الظلمة مجازا.
[19913]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/601) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/228) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا والبهيقي في "شعب الإيمان".
[19914]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/601) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/227) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان".