التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

تفريع على قوله : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [ البقرة : 199 ] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه .

وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلاّ جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلاّ قربان النساء .

والمناسك جمع مَنْسَك مشتق من نسك نَسْكاً من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : { قضيتم } ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم .

وقرأ الجميع { مناسككم } بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير .

وقوله : { فاذكروا الله } أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضاً عليه وإبطالاً لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمساً في العبادة فعلاً وقولاً واعتقاداً .

وقوله : { كذكركم أباءكم } بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكراً كذكركم الخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل ( أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة ) فيفعلون ذلك .

وفي « تفسير ابن جرير » عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالاً نحواً من ذلك .

والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء .

وقوله : { أو أشد ذكرا } أضل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت ( أو ) معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيراً ، وشبه أولاً بذكر آبائهم تعريضاً بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر . ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى : إن ( أو ) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفَيَا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل . وعليه خُرج قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] ، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولاً إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر .

و ( أشد ) لا يخلو عن أن يكون معطوفاً على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله { كذكركم آباءكم } تقديره : { كذكركم آباءكم } فتكون فتحة { أشد } التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله { كذكركم } والتقدير : ذكراً كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب { ذكراً } يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان ( أشد ) وصفاً لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلاّ أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلاً قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذٍ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلاً ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه الزجاج في « تفسيره » ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز ( نعم ) توكيداً في قوله جرير :

تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك فينا *** فنِعْم الزاد زادُ أبيك زَادا

ويجوز أن يكون نصب { أشد } على الحال من ( ذكر ) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام : أو ذكراً أشد ، فقدم النعت فصار حالاً ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذٍ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان . أو أن يكون ( أشد ) معطوفاً على ( ذكر ) المجرور بالكاف من قوله : { كذكركم } ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى : { كخشية الله أو أشد خشية } في [ سورة النساء : 77 ] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في إيضاح المفصل } ، وعليه ففتحة { أشد } نائبة عن الكسرة ، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب { ذكرا } على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج .

ولصاحب « الكشاف » تخريجان آخران لإعراب { أو أشد ذكراً } فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، ولابن جني تبعاً لشيخه أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفاً ذكره عنه ابن المنير في « الانتصاف » ، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء .

وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ ابن عرفة في « تفسيره » « وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلاّ ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [ سورة النساء : 77 ] { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال : في { أشد خشية } فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ » .

وقوله : { فمن الناس من يقول } الخ ، الفاء للتفصيل ؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله : { فاذكروا الله } الخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلاّ تيمناً ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً وادْعوه ، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء ، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلاّ على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى تفصيله تفصيلاً ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة ، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة .

قوله : { آتنا } ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله { حسنة } فيما بعد ، أي { آتنا في الدنيا حسنة } .

و« الخلاق » بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديراً به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزماً نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إنما يلبس هذه من خلاق له " أي من الخير وقول البعيث بن حريث :

ولَسْتُ وإن قُرِّبْتُ يَوْماً ببائعٍ *** خَلاَقي ولا دِيني ابِتغاءَ التَّحَبُّبِ

وجملة { وما له في الآخرة من خَلَقِ } معطوفة على جملة { من يقول } فهي ابتدائية مثلها ، والمقصود : إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة ، لأن المراد من هذا الفريق الكفار ، فقد قال ابن عطية : كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلاّ بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة .

ويجوز أن تكون الواو للحال ، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب .