الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

قوله تعالى : { مَّنَاسِكَكُمْ } : جمعُ " مَنْسَك " بفتحِ السين وكسرِها ، وسيأتي تحقيقُهما ، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً . والقُراء على إظهار هذا ، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ ، قالوا : شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام ، وأدغم أيضاً " مناسككم " ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو : { جِبَاهُهُمْ } [ التوبة : 35 ] و { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله { كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] إلاَّ في كونِها بمعنى " على " أو بمعنى اللام ، فَلْيُلتفت إليه . والجمهورُ على نصبِ " آباءكم " مفعولاً به ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل . وقرأ محمد بن كعب : " آباؤكم " رفعاً ، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ ، والمعنى : كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه . ورُوِيَ عنه أيضاً : " أباكم " بالإِفراد على إرادة الجنسِ ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله ، ويَبْعُد أن يقال : هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري " أباك " ونحوَهُ مُجرى المقصورِ .

قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في " أشد " أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً : فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مجروراً عطفاً على " ذكِركم " المجرورِ بكافِ التشبيه ، تقديرُه : أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً ، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً ، وإليه ذهب الزجاج ، وتبعه أبو البقاء ، وابن عطية .

والثاني : أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه ، وهو ضميرُ المخاطبين . قال الزمخشري : " أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه : " كذكركم " كما تقول : كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً " وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ ، لأنه جَعَلَ " أشد " من صفات الذاكرين ، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة .

وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ ، أحدُه : أن يكونَ معطوفاً على " آباءكم " قال الزمخشري ، فإنه قال : " بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم ، على أن " ذِكْراً " من فِعْلِ المذكور " وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ ، فقولُه : " هو معطوفٌ على آباءكم " معناه أنك إذا عَطَفْتَ " أشدّ " على " آباءكم " كان التقديرُ : أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم ، فكان القومُ مذكورين ، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد " أشدَّ " هو من فِعْلهم ، أي : من فعلِ القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد " أَفْعَلَ " الذي هو صفةٌ/ للقومِ ، ومعنى " من آبائِكم " أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً .

الثاني : أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في " كذكركم " لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف ، تقديرُه : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم : شعرٌ شاعِرٌ ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني .

الثالث : قاله مكي : أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ ، قال : " تقديرُه : فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم ، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ ، أي : اذكروه بالغين في الذِّكْر .

الرابع : أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون ، قال أبو البقاء : " وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى ، والتقدير : أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه : " فاذكروا الله " أي : كونوا ذاكِريه ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز " يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه .

الخامس : أن يكون " أشدَّ " نصباً على الحال من " ذِكْراً " لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له ، كقوله :

لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ *** يَلُوح كأنه خِلَلُ

" موحشاً " حالٌ من " طلل " ، لأنه في الأصلِ صفةٌ ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً فَجُعِلَ حالاً ، قاله الشيخ ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثةَ أوجه لنصبه ووجهين لجِرّه : " فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفة ، والذي يتبادر إلى الذهنِ في الآية أنهم أُمروا بأَنْ يَذْكُروا الله ذكراً يُماثل ذكرَ آبائِهم أو أشدَّ ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية عليه بوجهٍ ، ذُهلوا عنه " ، فَذَكَر ما تقدم . ثم جَوَّز في " ذِكْراً " والحالةُ هذه وجهين ، أَحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في " كذكركم " . ثم اعترض على نفسِه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف وهو " أو " وبين المعطوف وهو " ذِكْراً " بالحال " وهو " أشدَّ " ، وقد نصَّ النحويون [ على ] أن الفصلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطين ، أحدُهُما : أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد . والثاني : أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً أو ظرفاً أو جاراً ، وأحدُ الشرطين موجودٌ وهو الزيادة على حرفٍ والآخرُ مفقودٌ ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدمة . ثم أجابَ بأن الحالَ مقدرةٌ بحرفِ الجر وشَبَّهه بالظرفِ فَأُجْرِيَت مُجْرَاهما .

والثاني : من الوجهين في " ذِكْراً " أن يكونَ مصدراً لقوله : " فاذكروا " ويكون قولُه : " كذكركم " في محلِّ نصبٍ على الحال من " ذِكْراً " لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال ، ويكون " أشدَّ " عطفاً على هذه الحالِ ، وتقديرُ الكلام : فاذكروا الله ذكراً كذكركم ، أي : مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ ، فيصيرُ نظيرَ : " اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد " الأصل : اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ .

و " ذِكْراً " تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم ، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو : " وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ " ، " وعِلْمُهُ أكثرُ علم " وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو : " زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً " .

إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه : " ذِكْراً " هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه ، فإنه نظيرُ : " اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ " بالجرِّ فقط . والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في " أشدَّ " من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم : " شِعْرٌ شاعرٌ " كما قال به الفارسي وصاحبُه ، أو يُجْعَلَ " أشدَّ " من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري ، أو يُجْعَلَ " أشدَّ " حالاً من " ذِكْراً " أو ننصبَه بفعلٍ . وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص ، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل . وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب . و " أو " هنا قيل للإباحةِ ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بل .

قوله : { مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا } " مَنْ " مبتدأٌ ، وخبرُه في الجارِّ قبله ، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش ، وأن تكونَ نكرةً موصوفة . وفي هذا الكلام التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل : " فمنكم " ، وحُمِل على معنى " مَنْ " إذ جاء جَمْعاً في قوله : " ربَّنا آتِنا " ، ولو حُمِل على لفظِها لقال " ربِّ آتني " .

وفي مفعول " آتِنا " الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً ، لأنه من باب " أعطى " ، أي : آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا . والثاني : أن " في " بمعنى " مِنْ " أي : من الدنيا . والثالث : أنها زائدةُ ، أي : آتِنا الدنيا ، وليسا بشيء .