غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

197

قوله عز من قائل { فإذا قضيتم مناسككم } أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك . وأنه يحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون اسم مكان . وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء . عن ابن عباس : أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم . فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم . ثم الفاء في قوله { فاذكروا الله } تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل : هو الذكر على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل : هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة . وقيل : معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك ، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات ، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات ، فالأولى نفي والثاني إثبات . ومعنى { كذكركم آباءكم } توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذباً أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى ، وإن كان صدقاً استتبع العجب والتباهي ، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم . وعن الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق " أبه أبه أمه أمه " أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه ، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] وقال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر . والمعنى : كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله . وقال ابن الأنباري : العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وقال " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " وقيل : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف . وقيل : كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك . وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء . وقوله { أو أشد ذكراً } إما في موضع جر عطفاً على ما أضيف إليه الذكر في قوله { كذكركم } كما تقول " كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً . وإما في موضع نصف عطفاً على { آباءكم } بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم على أن { ذكراً } من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء ، فإن الذكر بل كل فعل معتدٍ له اعتبارات اعتبار وقوعه على المفعول ، واعتبار صدوره عن الفاعل . وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر . وإنما لزم اعتبار الفعل ههنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون . ويحتمل أن يقال : المعنى فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكراً . ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك : " وجهك أحسن وجه " أي أحسن الوجوه . فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله " زيد أفره عبداً " . فالفراهة للعبد لا لزيد . والمذكور قبل { أشد } ههنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال " أشد ذكراً إنما قياسه أن يقال : الذكر أشد ذكر جراً إضافة . وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكراً مجازاً . ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر ، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه . فمعنى { أو } ههنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره " افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه " . وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية ، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة ، وغاية الأول تضييع وحرمان ، ولازم الثاني نور وبرهان . ثم إنه تعالى بعدما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال ، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان : منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة تنبيهاً على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد ، فإن الإنسان خلق ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار . فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة . " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له : ما كنت تدعو الله به ؟ قال : كنت أقول : اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ؟ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي " .

والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه ، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات ، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات ، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه ؟ ! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم ؟ عن ابن عباس : أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وإماء وعبيداً . وذلك لإنكارهم البعث والمعاد . وعن أنس : كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر ، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا . طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون . يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة ، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم . وقوله { ربنا آتنا في الدنيا } متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم ، ويحتمل أن يكون من قولهم " فلان معط " أي موجد الإعطاء ، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة . واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال : روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة ، وبدنية هي الصحة والجمال ، وخارجية هي الجاه والمال . وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا . فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية . فلما قال عز من قائل { وماله في الآخرة من خلاق } أي طلب نصيب حذف مفعول { آتنا } لأن كل من ليس له في الآخرة طلب ، ولا لهمه إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح ، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علماً وعملاً روحانياً أو جسمانياً . اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك ، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولاً . فقال طائفة من العلماء : إنهم ليسوا بأهل للإجابة ، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجاباً لا كرامة واجتباء بل مكراً واستدراجاً ويؤيده قوله سبحانه { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول : ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق . لأن همته مقصورة على الدنيا .

/خ203