الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " فإذا قضيتم مناسككم " قال مجاهد : المناسك الذبائح وهراقة الدماء . وقيل : هي شعائر الحج ، لقوله عليه السلام : ( خذوا عني مناسككم ) . المعنى : فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم . وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك " ما سلككم " لأنهما مثلان و " قضيتم " هنا بمعنى أديتم وفرغتم ، قال الله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة{[1819]} " [ الجمعة :10 ] أي أديتم الجمعة . وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها .

الثانية : قوله تعالى : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة ، فتفاخر بالآباء ، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم ، وغير ذلك ، حتى أن الواحد منهم ليقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة ، عظيم الجفنة{[1820]} ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين . وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع : معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم : أبَه أمَّه ، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم . وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم ، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم . وقال أبو الجوزاء لابن عباس : إن الرجل اليوم لا يذكر أباه ، فما معنى الآية ؟ قال : ليس كذلك ، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما والكاف من قول " كذكركم " في موضع نصب ، أي ذكرا كذكركم . " أو أشد " قال الزجاج : " أو أشد " في موضع خفض عطفا على ذكركم ، المعنى : أو كأشد ذكرا ، ولم ينصرف لأنه " أفعل " صفة ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد . و " ذكرا " نصب على البيان .

قوله تعالى : " فمن الناس من يقول ربنا " " من " في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة يقول " ربنا آتنا في الدنيا " صلة " من " والمراد المشركون . قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط ، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو ، ولا يطلبون الآخرة ، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا ، وعلى هذا ف " ما له في الآخرة من خلاق " أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب . و " من " زائدة وقد تقدم .


[1819]:راجع ج 18 ص 108
[1820]:الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع.