وقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك } يريد في بيعة الرضوان ، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، وكان في ألف وأربعمائة رجل . قال النقاش : وقيل كان في ألف وثمانمائة ، وقيل وسبعمائة ، وقيل وستمائة ، وقيل ومائتين .
قال القاضي أبو محمد : وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، حتى قال سلمة بن الأكوع{[10409]} وغيره : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر .
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع ، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وبقي اسم البيعة بعد معاقدة الخلفاء والملوك ، وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة ، أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم . ومعنى : { إنما يبايعون الله } أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى .
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب{[10410]} : { إنما يبايعون الله } . قال أبو الفتح : ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول عليه وقربه منه{[10411]} .
وقوله تعالى : { يد الله } قال جمهور المتأولين : اليد ، بمعنى : النعمة ، أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها . { فوق أيديهم } التي مدوها لبيعتك . وقال آخرون : { يد الله } هنا ، بمعنى : قوة الله فوق قواهم ، أي في نصرك ونصرهم ، فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها ، وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر . قال النقاش { يد الله } في الثواب .
وقوله : { فمن نكث } أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه وإياها يهلك ، فنكثه عليه لا له .
وقرأ جمهور القراء : «بما عاهد عليه الله » بالنصب على التعظيم . وقرأ ابن أبي إسحاق : «ومن أوفى بما عاهد عليه اللهُ » بالرفع ، على أن الله هو المعاهد . وقرأ حفص عن عاصم : «عليهُ » مضمومة الهاء ، وروي ذلك عن ابن أبي إسحاق . والأجر العظيم : الجنة ، لا يفنى نعيمها ولا ينقضي أمرها .
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي والعامة : «فسيؤتيه » بالياء . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : «فسنؤتيه » بالنون . وفي مصحف ابن مسعود : «فسيؤتيه الله » .
شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة ، وهذه الجملة مستأنفة ، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام ، وصيغة المضارع في قوله : { يبايعونك } لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى : { ويَصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وَالحصر المفاد من { إنما } حَصر الفعل في مفعوله ، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائيّ بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول . وحيث كان الحصر تأكيداً على تأكيد ، كما قال صاحب « المفتاح » : « لم أجعل ( إنّ ) التي في مفتتح الجملة للتأكيد لِحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان » .
وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايَع بالفتح على وجه التخييلية مثل إثبات الأظفار للمنية .
وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايَع بالفتح كما قال كعب بن زهير :
حتى وضعتُ يميني لا أُنازعه *** في كَفِّ ذي يَسرات قِيلُه القِيل
ومما زاد هذا التخييل حسناً ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في « المفتاح » : والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزّه عن اليد وسمات المحدثات .
فجملة { يد الله فوق أيديهم } مقررة لمضمون جملة { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة { يد الله فوق أيديهم } وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف . وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم : إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة " ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايَع بالفتح ويضع هذا المبايَع يده على يد المبايع ، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية . ويشهد لهذا ما في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عُمر آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلاً يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين . وأيًّا مَّا كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل .
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع ، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعْنَك على أن لا يشركن بالله شيئاً } [ الممتحنة : 12 ] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة . وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السّمُر وكانوا ألفاً وأربعمائة على أكثر الروايات . وقال جابر بن عبد الله : أو أكثر ، وعنه : أنهم خمس عَشرة مائة . وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة . وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي . وتسمّى بيعة الرضوان لقول الله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح : 18 ] .
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم ، فكان جابر بن عبد الله يقول : بايعوه على أن لا يَفرَّوا ، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد : بايعناه على المَوت ، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت . ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبيّة عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائباً بمكة للتفاوض في شأن العمرة ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال : « هذه يد عثمان » ثم جاء عثمان فبايع ، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جَمَلِهِ حتّى بايع الناسُ ولم يكن منافقاً ولكنّه كان ضعيف العزم . وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض .
وفرع قوله : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } على جملة { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } ، فإنه لما كَشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيماً خطيراً في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك .
والنكث : كالنقض للحبل . قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] . وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد .
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل . ومضارع { ينكث } بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القرّاء . ومعنى { فإنما ينكث على نفسه } : أن نكثه عائد عليه بالضرّ كما دلّ عليه حرف على .
و { إنما } للقصر وهو لقصر النكث على مدلول { على نفسه } ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث ، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال : أوفى بالعهد وهي لغة تهامة ، ويقال : وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب ، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى .
قالوا : ولم ينكث أحد ممن بايع .
والظاهر عندي : أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ورويس عن يعقوب { فسنؤتيه } بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم . وقرأه الباقون بياء الغيبة عائداً ضميره على اسم الجلالة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ "بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ، ولا يولّوهم الأدبار "إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ" يقول: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك...
وفي قوله: "يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ" وجهان من التأويل:
أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم.
والآخر: قوّة الله فوق قوّتهم في نُصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدوّ.
وقوله: "فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: فمن نكث بيعته إياك يا محمد، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك، وخالف ما وعد ربه "فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ" يقول: فإنما ينقض بيعته، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الجنة بوفائه بالبيعة، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه، ولم ينكث إلا عليها، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه، نكث الناكث منهم، أو وفى ببيعته.
وقوله: "وَمَنْ أوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ..." الآية، يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه "فَسَيُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما" يقول: فسيعطيه الله ثوابا عظيما، وذلك أن يُدخله الجنة جزاءً له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن المبايعة المذكورة في هذه الآية، هي البيعة التي كانت بالحُديبيّة؛ بايعوه على ألا يفرّوا إذا لقوا عدوًّا. وجائز أن تكون المبايعة على ألا يفرّوا كما ذكر في آية أخرى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار} [الأحزاب: 15]. والمبايعة هي المعاهدة. ألا ترى أنه قال في الآية: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله} ذكر في أول الآية المبايعة وفي آخرها المعاهدة ليُعلم أن المبايعة والمعاهدة سواء، والله أعلم.
ثم إضافة مبايعتهم رسوله إلى نفسه تحتمل وجهين:
والثاني: ذكر ونسب المبايعة إلى نفسه لعظيم قدره وجليل منزلته عنده، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " فالمراد بالبيعة المذكورة -ههنا- بيعة الحديبية، وهي بيعة الرضوان -في قول قتادة ومجاهد- والمبايعة معاقدة على السمع والطاعة، كالمعاقدة في البيع والشراء بما قد مضي فلا يجوز الرجوع فيه. وقيل: إنها معاقدة على بيع أنفسهم بالجنة للزومهم في الحرب النصرة.
وقوله " يد الله فوق أيديهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما – عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه (صلى الله عليه وآله).
والآخر -قوة الله في نصرة نبيه (صلى الله عليه وآله) فوق نصرتهم. وقيل يد الله في هدايتهم فوق أيديهم بالطاعة.
وقوله " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " والنكث: النقض للعقد الذي يلزم الوفاء به، فبين تعالى أن من نقض هذه المبايعة، فإنما ينكث على نفسه، لأن ما في ذلك من استحقاق العقاب عائد عليه "ومن أوفى" يقال: أوفى بالعقد، ووفى... " بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما " أي إذا أوفى بالبيعة ونصر دينه ونبيه آتاه الله في ما بعد أجرا عظيما وثوابا جزيلا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}... الله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] والمراد: بيعة الرضوان. {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه... وقرئ: «إنما يبايعون لله» أي: لأجل الله ولوجهه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} كقوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايَع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم...
{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: إنما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني عنه، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي: ثوابًا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الذين}. ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به- ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: {يبايعونك} أي- في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة...
{إنما يبايعون الله} أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له...
{يد الله} أي المتردي بالكبرياء، ولما كان منزهاً عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: {فوق أيديهم} أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة و القوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص...
{فمن نكث} أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض {فإنما ينكث} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً {على نفسه} لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو- قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً، ولا يضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن الله ناصره لا محالة...
{ومن أوفى} أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة {بما عهد} وقدم الظرف اهتماماً به فقال: {عليه الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه {فسيؤتيه} أي بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} لا يسع عقولكم شرح وصفه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله. يد الله فوق أيديهم).. وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده، أن يد الله فوق أيديهم. فالله حاضر البيعة. والله صاحبها. والله آخذها. ويده فوق أيدي المتبايعين...
. (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه).. فهو الخاسر في كل جانب...
(ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).. هكذا على إطلاقه: أجرا عظيما.. لا يفصله ولا يحدده. فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم. عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل...
والظاهر عندي: أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه...