محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (10)

{ إن الذين يبايعونك } أي على قتال قريش تحت الشجرة ، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا يولوهم الأدبار . { إنما يبايعون الله } أي لأن عقد الميثاق مع رسول الله ، كعقده مع الله ، من غير تفاوت ، لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ونواهيه . { يد الله فوق أيديهم } تأكيد لما قبله . أي أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم ، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم . وقال القاشانيّ : أي قدرته البارزة في يد الرسول ، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم ، فيضرهم عند النكث ، وينفعهم عند الوفاء .

{ فمن نكث } أي نقض عهده { فإنما ينكث على نفسه } أي لعود ضرر ذلك عليه خاصة . { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } وهو الجنة .

تنبيه :

هذه البيعة هي بيعة الرضوان . وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية . وكان الصحابة الذين / بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة ، وقيل : وثلاثمائة ، وقيل : خمسمائة . والأول أصح – على ما قاله ابن كثير- وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة . ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها ، لزم إيرادها مفصلة .

قال ابن إسحاق : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا . واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ، ومعظما له ) .

وقال الإمام ابن القيم : قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة . وكان معه ألف وخمسمائة . هكذا في ( الصحيحين ) {[6608]} عن جابر . وفيهما{[6609]} عن عبد الله بن أبي أوفى : ( كنا ألفا وثلاثمائة ) . وعن جابر فيهما :{[6610]} ( كانوا ألفا وأربعمائة ) – والقلب إلى هذا أميل– وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع . ( ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريبا من عسفان ، أتاه عينه فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش{[6611]} ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : أترون أن نميل إلى ذراريّ هؤلاء / الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين{[6612]} محزونين ، وإن نجوا يكن عُنُق {[6613]} قطعها الله ؟ أم ترون أن نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ! إنما جئنا معتمرين ، ولم نجيء لقتال أحد . ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فروحوا إذن . فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم{[6614]} ، في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين ، فوالله ! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بعترة الجيش . فانطلق يركض نذيرا لقريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم ، بركت راحلته . فقال الناس : حَلْ حَلْ{[6615]} ، فألحّت{[6616]} فقالوا : خلأت{[6617]} القصواء ! خلأت القصواء ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ! ثم قال : والذي نفسي بيده ! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها . ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد{[6618]} قليل الماء إنما يتبرضه{[6619]} الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع سهما من كنانته{[6620]} ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه . قال ، فوالله ! ما زال يجيش لهم بالريّ{[6621]} ، حتى صدروا عنه . وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت . فدعا / رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش وقال : أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمّاراً ، وادعهم إلى الإسلام . وأمَرَه أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ، ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح{[6622]} ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمّارا . فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه . فحمل عثمان على الفرس وأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة . وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون ! فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله ، وقد خلص قال : ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معا . واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : هذه عن عثمان . ولما تمت البيعة رجع عثمان . فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : بئس ما ظننتم بي ! والذي نفسي بيده ! لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ! فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم ، إلا الحرّ بن قيس ، / وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم . وكان أول من بايعه أبو سنان الأسديّ ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم . فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح{[6623]} رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل{[6624]} ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لم نجئ لقتال أحد . ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرّت بهم : فإن شاؤوا أُماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس . وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جمّوا . وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال سمعته يقول كذا وكذا . فقال عروة بن مسعود الثقفيّ : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته . فقالوا ائته فأتاه فجعل يكلمه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ! أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن أخرى ، فوالله إني لأرى وجوها ، وأرى أوشابا من الناس ، خليقا أن يفروا ويدعوك ! فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه وندعه ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده ! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك ! وجعل يكلم / النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته . والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر . فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غُدَر ! أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية . فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء .

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فوالله ! ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدّون إليه النظر تعظيما له . فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ! لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشيّ ، والله ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا . والله ! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له . وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البُدْن ، فابعثوها له ، فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبّون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البُدْن قد قُلّدت وأُشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت . فقام مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : / قد سهل لكم من أمركم ، فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا . فدعا الكاتب ، فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : أم الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب : باسمك اللهم . ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال سهيل : فوالله ! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله وإن كذبتموني ! اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل : والله ! لا تتحدث العرب أننا أُخِذْنَا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا . فقال المسلمون سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما ؟ ! فبيناهم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين . فقال سهيل : هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : فوالله ! إذن لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجره لي قال : ما أنا بمجيره لك ، قال : بلى ، فافعل . قال ما أنا بفاعل . قال مكرز : قد أجزناه لك . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت – وكان قد عذب عذابا شديدا في الله – قال عمر بن الخطاب : والله ! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! ألست نبي الله ؟ قال : بلى ! قلت : ألسنا على الحق ، وعدوّنا على الباطل ؟ قال : بلى ! فقلت : على مَ نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه . قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ! فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا ! قال : فإنك آتيه ، وتطوف به ! قال فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت/ فوالله ! إنه لعلى الحق . قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا وانحروا ثم احلقوا ، فوالله ! ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ! أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك . فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم ، حتى فعل ذلك : نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا . ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل :{[6625]} { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } حتى بلغ { بعصم الكوافر } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك . فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية .

ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا . . . } الآيات . فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم ! فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ! فما لنا ! فأنزل الله عز وجل {[6626]} { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين . . . } الآية . ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير – رجل من قريش – مسلما ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي جعلت لنا ! فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيدا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ! والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت . فقال أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفرّ الآخر يعدو ، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعرا . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قُتِل ، والله ! صاحبي ، وإني لمقتول . وجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك ، وقد رددتني إليهم ، فأنجاني الله منهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : / ويل أمّهِ ! مِسْعَرَ حرب لو كان له أحد . فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن ، فأنزل الله عز وجل{[6627]} { وهو الذي كف أيديهم عنكم . . } الآية . وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل ، قدمها ، وخلّوا بينه وبين مكة ، فأقام بها ثلاثا ، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب ، والسيوف في القرب ، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك ، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا ، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال . فقالوا : يا رسول الله ! نعطيهم هذا ؟ فقال : من أتاهم منا ، فأبعده الله ، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم ، جعل الله له فرجا ومخرجا ) .

وهذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في ( زاد المعاد ) .


[6608]:أخرجه البخاري في: 64 –كتاب المغازي، 35 – باب غزوة الحديبية، حديث 1685.
[6609]:أخرجه البخاري في: 64 – كتاب المغازي، 35 – باب غزوة الحديبية، حديث 1894.
[6610]:أخرجه البخاري في: 64 – كتاب المغازي، 35 – باب غزوة الحديبية، حديث 1685.
[6611]:الأحابيش: أحياء من العرب حالفوا قريشا، وتجمعوا معهم.
[6612]:الموتور: من قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه.
[6613]:العُنقُ: الجماعة من الناس.
[6614]:واد بمرحلتين من مكة.
[6615]:كلمة زجر لبعث البعير على السير.
[6616]:أي لزقت مكانها.
[6617]:أي حرنت.
[6618]:الثمد: بالتحريك الماء القليل. ولعل المراد به هنا محله، ليحسن وصفه بقلة الماء.
[6619]:أي يأخذونه قليلا قليلا.
[6620]:وعاء من جلد يكون فيه النشاب.
[6621]:أي يفور ماؤه ويرتفع.
[6622]:موضع قرب مكة.
[6623]:يعني: خاصته وموضع نصحه. كنى بها عن القلوب والصدور التي هي مواضع النصح، تشبيها لها بالعياب التي يستودع فيها الثياب.
[6624]:أي الإبل مع أولادها. والمطفل: الناقة القريبة العهد بالنتاج مع طفلها.
[6625]:[60 / الممتحنة / 10].
[6626]:[48 /الفتح/ 4].
[6627]:[48 / الفتح/ 24].