{ إن الذين يبايعونك } أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام والوفاء بالعهد الذي التزمه له وهي بيعة الرضوان بالحديبية ، فإنهم بايعوه تحت الشجرة على قتال قريش فبايعه جماعة على الموت منهم سلمة بن الأكوع وبايعه جماعة على أن لا يفروا منهم معقل بن يسار والحديبية قرية ليست كبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلة سميت ببئر هناك ، وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر ، قال مالك : هي من الحرم وقال ابن القصار : بعضها من الحل ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد والأول أفصح وعامة المحدثين يشددونها .
{ إنما يبايعون الله } أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وهي بيعة له ، كما قال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ، وجملة : { يد الله فوق أيديهم } مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل ، أو في محل نصب على الحال وفي هذا التركيب إستعارة تصريحية تبعية في الفعل ، ومكنية في الإسم الكريم ، وتخييلية في إثبات اليد له ، وفيه مشاكلة في مقابلة يده بأيديهم ، والمعنى أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقدة مع الله سبحانه من غير تفاوت بينهما ، قاله الزمخشري والكرخي ، وقيل : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم ، وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبايعونه ، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة .
قال الرازي : وذلك يحتمل وجوها ، لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد ، وإما أن تكون بمعنيين ، فإن قلنا : إنها بمعنى واحد ففيه وجهان .
أحدهما يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق أجسامهم ، كما قال : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } .
وثانيهما نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه ، يقال اليد لفلان أي الغلبة والنصرة والقوة ، وإن قلنا إنها بمعنيين فنقول : اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ ، وفي حق المبايعين . بمعنى الجارحة ، فيكون المعنى يد الله فوق أيديهم بالحفظ انتهى .
قلت : وهذا هو مذهب أهل التأويل والكلام ، ومذهب السلف في هذه الآية وأمثالها السكوت عن التأويل ، وإمرار آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالصفات كما جاءت مع الإيمان بها . من غير تشبيه ، ولا تكييف ، ولا تعطيل ، ولا تحريف ، ولا صرف عن الظاهر ، ولا تأويل وهو الحق .
{ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } أي فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه ، لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره .
عن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه نفوسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة ، فمن وفى وفي الله له ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه{[1508]} ، أخرجه أحمد وابن مردويه .
وفي الصحيحين من حديث جابر " أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشر مائة " ، و " فيهما عنه أنهم كانوا أربع عشرة مائة " {[1509]} .
وفي البخاري من حديث قتادة . عن سعيد بن المسيب : " أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة ، فقال له : إن جابرا قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال رحمه الله وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة " .
{ ومن أوفى بما عاهد عليه الله } أي ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله ، يقال وفيت بالعهد وأوفيت به ، ومنه قوله : { أوفوا بعهد الله } { والموفون بعهدهم } ، قرأ الجمهور ( عليه ) بكسر الهاء وقرئ بضمها { فسيؤتيه } بالياء والنون سبعيتان { أجرا عظيما } وهو الجنة وهذه الآية فيها دلالة على مشروعية البيعة ، وقد صدرت منه صلى الله عليه وسلم مبايعات كثيرة اشتملت عليها الأحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام ، وفيها أن الناس كانوا يبايعونه تارة على الهجرة والجهاد ، وتارة على إقامة أركان الإسلام وتارة على الثبات والقرار في معارك الكفار ، وتارة على هجر الفواحش والمنكرات ، وتارة على التمسك بالسنة ، والاجتناب عن البدعة ، والحرص على الطاعات ، كما بايع نسوة من الأنصار على أن لا يخن .
" وبايع ناسا من فقراء المهاجرين على أن لا يسألوا الناس شيئا فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل عن فرسه فيأخذه ، ولا يسأل أحدا " رواه ابن ماجة في سننه .
وقد نطق بن الكتاب العزيز كما في هذه الآية وفي قوله تعالى { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } الآية ، ومما لا شك فيه ولا شبهة أنه إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل على سبيل العبادة والاهتمام بشأنه ، فإنه لا ينزل عن كونه سنة في الدين ، بقي أنه صلى الله عليه وسلم كان خليفة الله في أرضه ، وعالما بما أنزله الله تعالى من القرآن والحكمة ، معلما للكتاب والسنة ، مزكيا للأمة فما فعله على جهة الخلافة كان سنة للخلفاء ؛ وما فعله على جهة كونه معلما للكتاب والحكمة ومزكيا للأمة كان سنة للعلماء الراسخين ؛ وهذا صحيح البخاري شاهد على أنه :
" صلى الله عليه وسلم اشترط على جرير عند مبايعته : والنصح لكل مسلم " .
وأنه " بايع قوما من الأنصار فاشترط أن لا يخافوا في الله لومة لائم ويقولوا بالحق حيث كانوا فكان أحدهم يجاهر الأمراء والملوك بالرد والإنكار " إلى غير ذلك وكل ذلك من باب التزكية : والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالبيعة على أقسام منها بيعة الخلافة ومنها بيعة الإسلام ومنها بيعة التمسك بحبل التقوى ومنها بيعة الهجرة والجهاد ومنها بيعة التوثق في الجهاد وكان بيعة الإسلام متروكة في زمن الخلفاء .
أما في زمن الراشدين منهم فلأن دخول الناس في الإسلام في أيامهم كان غالبا بالقهر والسيف لا بالتأليف ، وإظهار البرهان ، ولا طوعا ولا رغبة ، وأما في غيرهم ، فلأنهم كانوا في الأكثر ظلمة فسقة لا يهتمون ، وكذلك بيعة التمسك بحبل التقوى كانت متروكة ، أما في زمن الخلفاء الراشدين فلكثرة الصحابة الذين استناروا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبوا في حضرته فكانوا لا يحتاجون إلى بيعة الخلفاء ، وأما في زمن غيرهم فخوفا من افتراق الكلمة ، وأن يظن بهم مبايعة الخلافة فتهيج الفتن ، ثم لما اندرس هذا في الخلفاء انتهز أكابر العلماء والمشايخ الفرصة وتمسكوا بسنة البيعة ، وأن الذي اعتاده الصوفية رحمهم الله من مبايعة المتصوفين ، ففيه ما يقبل وما يرد ، ويظهر ذلك بعرضها على الكتاب والسنة ، فما وافقهما فهو السنة والصواب ، وما خالفهما فهو الخطأ والتباب ، وإنما هذه البيعة سنة وليست بواجبه ، لأن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقربوا بها إلى الله تعالى ، ولم يدل دليل على تأثيم تاركها ، ولم ينكر أحد من الأئمة على من تركها ، فكان كالاتفاق على أنها ليست بواجبة .
أحدها علم الكتاب والسنة ، وإنما شرطنا ذلك لأن الغرض من البيعة أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وإرشاده إلى تحصيل السكينة الباطنة ، وإزالة الرذائل ، وإكتساب الحمائد ، متقيدا بظاهر القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، ومن لم يكن عالما بهما ، وعاملا بموجبهما لا يتصور منه ذلك أبدا وقد اتفقت كلمة المشايخ على أن لا يتكلم على الناس إلا من كتب الحديث وقرأ القرآن .
وثانيها ، العدالة والتقوى والصدق والضبط ، فيجب أن يكون مجتنبا عن الكبائر ، غير مصر على الصغائر .
ثالثها : أن يكون زاهدا في الدنيا ، راغبا في الآخرة مواظبا على الطاعات المؤكدة والأذكار المأثورة في صحاح الأحاديث مواظبا على تعلق القلب بالله سبحانه .
رابعها : أن يكون آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، مستبدا برأيه ، لا إمعة ليس له رأي ، ولا أمر ، ذا مروءة وعقل تام يعتمد عليه في كل ما يأمر به ، وينهى عنه ، قال تعالى { ممن ترضون من الشهداء } ، فما ظنك بصاحب البيعة ؟
خامسها : أن يكون صحب العلماء بالكتاب والسنة ، وتأدب بهم دهرا طويلا ، وأخذ منهم العلم للظاهر ، والنور الباطن والسكينة ، وهذا لأن سنة الله جرت بأن الرجل لا يفلح إلا إذا رأى المفلحين ، ولا يشترط في ذلك ظهور الكرامات وخوارق العادات ولا ترك الإكتساب ؛ لأن الأول ثمرة المجاهدات ، لا شرط الكمال ، والثاني مخالف للشرع المطهر ولا تغتر بما فعله المغلوبون في أحوالهم ، إنما المأثور القناعة بالقليل ، والورع من الشبهات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.