المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }( 116 )

قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا » بواو تربط الجملة بالجملة ، أو تعطف على { سعى }( {[1165]} ) [ البقرة : 114 ] ، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا » بغير واو ، وقال أبو علي( {[1166]} ) : وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، وحذف منه الواو يتجه من وجهين ، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو( {[1167]} ) ، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم ، واختلف على من يعود الضمير في { قالوا } ، فقيل : على النصارى ، لأنهم قالوا المسيح ابن الله .

قال القاضي أبو محمد : وذكرهم أشبه بسياق الآية ، وقيل : على اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله ، وقيل : على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله( {[1168]} ) ، و { سبحانه } مصدر معناه تنزيهاً له وتبرئة مما قالوا( {[1169]} ) ، و { ما } رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور ، أو في الاستقرار المقدر ، أي كل ذلك له ملك ، والذي قالوا :إن الله اتخذه ولداً داخل في جملة { ما في السماوات والأرض } ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات . ( {[1170]} )

والقنوت في اللغة الطاعة ، والقنوت طول القيام في عبادة ، ومنه القنوت في الصلاة ، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع ، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم( {[1171]} ) ، وقيل : الكافر يسجد ظله وهو كاره .


[1165]:- نميل إلى أن الرأي الأول أحسن مما بعده فالواو فيه عاطفة لجملة على جملة خبرية، وأما العطف على (سعى) فيؤدي إلى العطف على معطوف على الصلة، وقد فصل بينهما بجمل كثيرة، وهذا من العطف البعيد الذي ينزه القرآن عن مثله. وهذا هو رأي أبي (ح)- البحر المحيط1/362.
[1166]:- هو أبو علي الفارسي- ذكره أبو (ح) في البحر المحيط 1/362.
[1167]:- والتي قبلها هي قوله تعالى: [ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها]، ويريد أن الربط بالضمير يعني في ملاحظة العطف عن الربط بالواو لما بين الآيتين من الملابسة، فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا من جملة هؤلاء الذي تقدم ذكرهم فيستغنى عن الواو لذلك كما استغنى عنها في قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، فبين الجملة الأخيرة وما قبلها ملابسة أغنت عن الواو- إلا أن الاستئناف على هذه القراءة أظهر، والله أعلم.
[1168]:- الظاهر أنه عائد على الجميع دون تخصيص، فإن كلا منهم قال ذلك، وكل الثلاة تقدم ذكره.
[1169]:- أي تبرئة له سبحانه مما يقتضيه قولهم من مجانسته سبحانه لشيء من مخلوقاته، فأضرب الله عن ذلك، وأثبت أن كل ما في السموات والأرض (ومن ذلك المسيح وعزير والملائكة) مملوك ومخلوق لله.
[1170]:- فالبنوة والملكية لا يجتمعان، وعليه فالله مخالف لخلقه وبعيد عن مجانستهم، والولد المنسوب إلى الله هو من جنسهم لا من جنسه إذ هم الذين يحتاجون إلى من يخلقهم لبقاء نوعهم، والله عز وجل باق ودائم وغني بنفسه و ذاته لا حاجة به إلى غيره.
[1171]:- هذا جواب عما قد يقال: كيف هذا العموم وكثير من المخلوقات ليس بمطيع؟ فأجاب بما يدل على الطاعة من الكفار والجمادات.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ} (116)

الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث .

وقد قرىء بالواو ( وقالوا ) على أنه معطوف على قوله { وقالت اليهود } [ البقرة : 113 ] وهي قراءة الجمهور . وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافاً كأنَّ السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعاً وتفريقاً تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجباً فهل انتهت مساويهم أم لهم مساوٍ أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساوٍ لا تصدر إلا عن فطر خبيثة .

وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها ، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعاً إلى جمعهم في قَرَن إتماماً لجمع أحوالهم الواقع في قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وفي قوله : { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } [ البقرة : 113 ] . وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] إلى قوله : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] .

والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضاً لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعْتِقَاد .

وقوله : { اتخذ الله ولداً } جاء بلفظ { اتخذ } تعريضاً بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولداً لله ويقولون اتخذه الله .

والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل : القتلُ جناية عظيمةٌ فلا تكفَّر مثل الردة .

وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشىء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشىء عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا تؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته .

جاء في التوراة في الإصحاح 14 من سفر التثنية « أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم » وفي إنجيل متى الإصحاح 5 « طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدْعَون » وفيه « وصَلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات » وفي الإصحاح 6 « انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها » وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث : " الخلقُ عيال الله " .

وقوله : { سبحانه } تنزيه لله عن شنيع هذا القول . وفيه إشارة إلى أن الوَلَدِيَّة نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالاً في الشاهد لأنها إنما كانت كمالاً في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه .

وقوله : { بل له ما في السماوات والأرض } إضراب عن قولهم لإبطاله ، وأقام الدليل على الإبطال بقوله : { له ما في السماوات والأرض } فالجملة استئناف ابتدائي وَاللام للملك و ( ما في السماوات والأرض ) أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية .

و { ما } من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره وعلى المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في « المفصل » واختاره الرضي . وقيل : ( ما ) تَغْلِب أو تختص بغير العقلاء ومَنْ تختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفاً وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلاً للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساويةٍ لغيره من بقية الموجودات تصغيراً لشأن كل موجود .

والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء { قانتون } بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليباً لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة .

والمضاف إليه المحذوف بعد { كلّْ } دلّ عليه قوله : { ما في السماوات والأرض } أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين ( كل ) تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { ولكل وجهة هو موليها } [ البقرة : 148 ] في هذه السورة .

وفي قوله : { له قانتون } حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبرُّ به ولا يقنت ، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مُساوي نقيضه ومُساوي النقيض نقيضٌ وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له .

وفصل جملة { كل له قانتون } لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله : { له ما في السماوات والأرض } .

وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أُعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن .