المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }( 115 )

و { المشرق } موضع الشروق ، { والمغرب } موضع الغروب ، أي هما له ملك( {[1152]} ) وما بينهما( {[1153]} ) من الجهات والمخلوقات ، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك( {[1154]} ) ، و «أينما » شرط ، و { تولوا } جزم به ، والجواب في قوله { فثم } ، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه ، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية ، تقول وليت عن كذا وإلى كذا ، وقرأ الحسن «تولوا » بفتح التاء واللام( {[1155]} ) ، وثمَّ مبنية على الفتح ، وهي في موضع نصب على الظرف ، و { وجه الله } معناه الذي وجهنا إليه( {[1156]} ) ، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا .

واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافاً إلى الله تعالى في مواضع من القرآن ، فقال الحذاق : ذلك راجع إلى الوجود ، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب ، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدراً ، وقال بعض الأئمة : تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى ، وضعف أبو المعالي هذا القول( {[1157]} ) ، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه ، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى ، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال ، وقال أبو منصور في المقنع : يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه ، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم ، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته .

واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال قتادة : أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حينئذ ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة( {[1158]} ) ، وقال مجاهد والضحاك : معناه إشارة إلى الكعبة ، أي حيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس ، وقال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس ، وقالوا : ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم ؟ فنزلت { ولله المشرق والمغرب } الآية ، وقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته( {[1159]} ) ، وقال النخعي : الآية عامة( {[1160]} ) أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم { فثم وجه الله } ، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة ، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال : «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة ، فتحرى قوم القبلة وأعلموا( {[1161]} ) علامات ، فلما أصبحوا رأو أنهم قد أخطؤوها ، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فنزلت هذه الآية »( {[1162]} ) ، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع القوم في السفر ، وذلك خطأ( {[1163]} ) ، وقال قتادة أيضا : نزلت هذه الآية في النجاشي ، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه ، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلِّ إلى القبلة قط ؟ فنزلت هذه الآية ، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغة التوجه إلى القبلة ، وقال ابن جبير : نزلت الآية في الدعاء لما نزلت { ادعوني استجب لكم } [ غافر : 60 ] ، قال المسلمون : إلى أين ندعو ، فنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } ، وقال المهدوي : وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها ، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات ، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب { فثم وجه الله } موجود حيث توليتم . ( {[1164]} )

وقال أيضاً : وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت ، و { واسع } معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها ، وقيل

{ واسع } معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر ، { عليم } بالنيات التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها .


[1152]:- أي بطريق الإيجاد والاختراع.
[1153]:- يشير إلى أن في الآية حذف معطوف أي: ولله المشرق المغرب وما بينهما.
[1154]:- كما سيأتي بعد في قوله: واختلف المفسرون في سبب هذه الآية.
[1155]:- أي على حذف إحدى التاءين ويكون الأصل: (تتولوا).
[1156]:- أي الوجه الذي وجهنا إليه، بمعنى الجهة التي وجهنا إليها وهي القبلة.
[1157]:- قالوا: لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله بلفظ محتمل، وهي صفة لا يدرى ما هي، ولا يعقل معناها في اللسان العربي، فوجب اطراح هذا القول والاعتماد على أن المراد وجوده إذ للفظ دلالة على التجسيم.
[1158]:- وعلى أنها منسوخة فلا اعتراض من جهة كونها خيرا لأنها محتملة لمعنى الأمر، ويكون المعنى: ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية تلاها سعيد بن جبير لما أمر الحجاج بقتله.
[1159]:- حديث ابن عمر هذا رواه الإمام مسلم والترمذي و النسائي وغيرهم. وعليه فالآية نزلت في التنفل في السفر، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليها حيث توجهت به شرقا وغربا.
[1160]:- أي غير خاصة بالصلاة.
[1161]:- أي خطوا خطوطا في الجهات التي صلوا إليها.
[1162]:- رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وليس إسناده بذلك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعت السمان، وأشعت يضعف في الحديث، قال الحافظ ابن كثير: وكذلك شيخه عاصم.
[1163]:- لأن سائر طرق حديث عامر بن ربيعة يوجد فيها: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[1164]:- ما قاله المهدوي رحمه الله في مناسبة الآية لما قبلها واضح، وفي سبب نزولها راجح، والله أعلم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضى الله تعالى كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل : " نحن أحق بموسى منهم " .

فالمراد من { المشرق والمغرب } في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدىء من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهوراً عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية .

وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء ، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالى نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه ، والوجه أن يكُونَ مقصد الآية عاماً كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف عن استقبال الكعبة .

وتقديم الظرف للاختصاص أي إن الأرض لله تعالى فقط لا لهم ، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين .

و { وجه الله } بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول : لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله : { من أسلم وجهه لله } [ البقرة : 112 ] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك ، وهو أيضاً كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل : { إن الله واسع عليم } فقوله : { واسع } تذييل لمدلول { ولله المشرق والمغرب } والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله ، أنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضى الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته ، وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة .