المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

{ كأين } بمعنى كم ، وهذه الآية أيضاً تحريض على الهجرة لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها ، المعنى فهو يرزقكم أنتم ، ففضلوا طاعته على كل شيء ، وقوله تعالى : { لا تحمل } يجوز أن يريد من الحمل أي لا تستقل ولا تنظر في ادخار ، وقاله ابن مجلز ومجاهد وعلي بن الأقمر .

قال الفقيه الإمام القاضي : والادخار ليس من خلق الموقنين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة بضعف اليقين »{[9273]} ، ويجوز أن يريد من الحمالة أي لا تتكفل لنفسها ولا تروي فيه{[9274]} .


[9273]:أسند الواحدي عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من الثمار ويأكل، فقال: (يابن عمر، مالك لا تأكل؟) فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله، فقال: (لكني أشتهيه، وهذه صبيحة رابعة لم أذق طعاما، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين)؟ قال: والله ما برحنا حتى نزلت: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم)، وقد علق عليه الشوكاني بقوله: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت في كتب الحديث المعتبرة وفي إسناده أبو العطوف الجوزي، وهو ضعيف".
[9274]:لا تفكر في الأمر ولا تنظر فيه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

عطف على جملة { كل نفس ذائقة الموت } [ العنكبوت : 57 ] فإن الله لما هوَّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أ ، هم يقولون في أنفسهم : إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة . واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] فأعقب ذلك بأن ذكَّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم . وضرب لهم المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : { إن أرضي واسعة } [ العنكبوت : 56 ] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقاً في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضاً مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : { وعلى رَبِّهِم يَتَوكلون } [ العنكبوت : 59 ] ، وفي الحديث : « لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خِماصاً وتروح بِطَاناً » ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ، ضمِن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله . وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم .

وتقدم الكلام على { كأيّن } عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قُتِل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران [ 146 ] .

وقوله : { وكأيّن من دابة لا تَحْمل رِزْقها } خبر غير مقصود منه إفادة الحكم ، بل هو مستعمل مجازاً مركباً في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين . وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : { الله يرزقها وإياكم } الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : { وكأين من دَابةٍ لا تَحْمِل رِزْقها } ولذلك عطف { وإياكم } على ضمير { دابة } والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للاسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرق مختلفة .

والجمل في قوله : { لا تحمل رزقها } يجوز أن يكون مستعملاً في حقيته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض . ويجوز أن يستعمل مجازاً في التكلف له ، مثل قول جرير :

حُمِّلت أمراً عظيماً فاصطبرت له

أي لا تتكلف لرزقها . وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة ، قيل وبعض الطيركالعقعق . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يرزقها } دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا يغره ، فلماذا تعبدون أصناماً ليس بيدها رزق . وجملة { وهو السميع العليم } عطف على جملة : { الله يرزقها وإياكم } . فالمعنى : الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق .