الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فوعظهم الله ليعتبروا، فقال: {وكأين} يعني وكم {من دابة} في الأرض أو طير {لا تحمل} يعني لا ترفع {رزقها} معها {الله يرزقها} حيث توجهت {وإياكم} يعني يرزقكم إن هاجرتم إلى المدينة {وهو السميع العليم} لقولهم إنا لا نجد ما ننفق في المدينة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به، وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هاجروا وجاهدوا في الله أيها المؤمنون أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا، فكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء ومطعم ومشرب لا تحمل رزقها، يعني غذاءها لا تحمله، فترفعه في يومها لغدها لعجزها عن ذلك "اللّهُ يَرْزُقُها وَإيّاكُمْ "يوما بيوم "وَهُوَ السّمِيعُ" لأقوالكم: نخشى بفراقنا أوطاننا العَيْلة "العَلِيمُ" ما في أنفسكم، وما إليه صائر أمركم، وأمر عدوّكم من إذلال الله إياهم، ونُصْرتكم عليهم، وغير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه... عن أبي مُجَلّز في هذه الآية "وكأيّنْ مِن دابّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها، اللّهُ يَرْزُقُها وَإيّاكُمْ" قال: من الدوابّ ما لا يستطيع أن يدّخر لغد، يُوَفّق لرزقه كلّ يوم حتى يموت.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... جائز أن يكون لا على الصلة بما تقدم، ولكن على ابتداء تذكير وتنبيه للبشر لئلا يعلّقوا قلوبهم بأسباب الرزق، لأن للبشر فضل تعلق القلوب بأسباب المعاش والرزق، والرزق ليس يتعلق بأسباب، بل يرزق الله بسبب وبغير سبب؛ إذ قد يرزق، ويبسط من ليس له من الأسباب شيء نحو ما ذكر من رزق الطير والدواب وغير ذلك من البشر الذين يرزقون بلا أسباب ومكاسب. ولذلك ذكر، والله أعلم، على إثر ذلك: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} [العنكبوت: 62] يبسط لمن يشاء، وإن لم يكن له سبب، ويقدر على من يشاء، وإن كان معه سبب لئلا يعلّقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب والمكاسب...

وقوله تعالى: {وهو السميع العليم} على إثر ما ذكر على وجهين: أحدهما: {السميع} المجيب لكل ما يدعون، ويسألون {العليم} بحوائجهم حيث كانوا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة. فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدة ليس لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. {تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لا تطيق أن تحمله لضعفها على حمله {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن {لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لا تدّخره، إنما تصبح فيرزقها الله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد، ويأتيها كل يوم برزق رغد.

قوله تعالى: {لا تحمل رزقها}...

{الله يرزقها وإياكم} بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله، فكذلك يرزقكم فتوكلوا، فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى، فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظرا إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق، أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق، وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظما ولحما وشحما، وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها، وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق، فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء، ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك، فإن كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا وترك بقية يجدها غدا، ما مد إليه أحد يدا، والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيء؟ وأيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضا قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل، لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع، وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل، ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل.

وأما قوله: حاجات الإنسان كثيرة، فنقول مكاسبه كثيرة أيضا، فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره، وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي، وبفهمه كالمهندس والتاجر، وبعلمه كالطبيب والفقيه، وبقوة جسمه كالعتال والحمال، والحيوان لا مكاسب له، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غدا أو بعد غد، بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب، فهو أولى بالتوكل. وأيضا الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه، فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى، حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر، وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرا شاءوا أم أبوا، وليس كذلك حال الحيوان أصلا، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان، ثم قال: {وهو السميع العليم} سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع ويجيب، عليم إن سكتم، لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه، من الفقر والضيعة، بقوله سبحانه {وَكَأَيِّن} أي: وكم {مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي يقيض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم. فهو الميسر والمسهل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه. فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى، بل خيره عام وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنى وجدوا. وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار. وهذا معنى ما ورد مرفوعا (سافروا تصحوا وتغنموا) رواه البيهقي

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله، وإشعارهم برعايته وعنايته، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم: (وهو السميع العليم).. وتنتهي هذه الجولة القصيرة؛ وقد لمست كل حنية في تلك القلوب؛ ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج. وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة، ومكان كل قلق ثقة، ومكان كل تعب راحة. وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان. ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب. ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {كل نفس ذائقة الموت} [العنكبوت: 57] فإن الله لما هوَّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم: إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة. واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31] فأعقب ذلك بأن ذكَّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم. وضرب لهم المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى: {إن أرضي واسعة} [العنكبوت: 56] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقاً في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضاً مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله: {وعلى رَبِّهِم يَتَوكلون... والجمل في قوله: {لا تحمل رزقها}... ويجوز أن يستعمل مجازاً في التكلف له...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

يريد سبحانه أن يطمئن خلقه على أرزاقهم، فيقول {وكأين من دابة} كأي لها معان متعددة، مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنت إليك؟ يعني: كثيرا جدا، كذلك في {وكأين} أي: كثير كما في {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم} (آل عمران 146)... ومعنى {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} ليست كل الدواب تحمل رزقها، فكثير منها لا تحمل رزقا، ومع ذلك تأكل وتعيش.. {الله يرزقها وإياكم} فذكر الدواب أولا في مجال الرزق ثم عطف عليها {وإياكم} فنحن معطوفون في الرزق على الدواب، مع أن الإنسان هو الأصل، وهو المكرم، والعالم كله خلق من أجله ولخدمته، ومع ذلك لم يقل سبحانه: نحن نرزقكم وإياهم، لماذا؟ قالوا: لأنك تظن أنها لا تستطيع، إلا أننا سنرزقها قبلك... وقوله سبحانه: {وهو السميع العليم} واختار هنا السميع العليم؛ لأن الحق سبحانه له قيومية على خلقه، فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس، إنما خلق الخلق وهو سبحانه قائم عليه بقيوميته تعالى؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة 255) يعني: يا عبادي ناموا ملء جفونكم؛ لأن ربكم لا ينام. ومناسبة السميع هنا؛ أن الجوع إذا هز إنسانا ربما يصيح صيحة، أو يحدث شيئا يدل على أنه جائع، فكأنه يقول: لم أجعلكم كذلك.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهكذا توحي الآية لنا أن على العاملين في سبيل الله أن لا يستسلموا لتهاويل الخوف التي تثيرها القوى المستكبرة ضد القوى المستضعفة، انطلاقاً من كل التهديدات التي تطلقها بالحصار الاقتصادي الذي تضيق معه فرص الحياة وظروف العيش الهنيّ، باعتبار أنها التي تملك الثروة الغذائية، فهي التي تستطيع أن تمنع الناس من لقمة العيش، وهي التي تملك أن تعطيها من خلال قدراتها المادية على أساس شروطها الثقافية والأمنية والسياسية والاقتصادية، في ما يضغط على حريات الأمة ويصادر إرادتها، ويقيّد مستقبلها بقيود ثقيلة. إن الثقة بالله وبرحمته وقدرته على أن يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فيعطي من يشاء حتى لو منعه الناس، ويمنع من يشاء حتى لو أعطاه الناس، إن ذلك هو الذي يؤكد للمؤمن ثقته بنفسه وبالحياة من حوله، من خلال الثقة بالله الواسع الكريم الذي يتعهد خلقه في أعماق الأرض، وفي آفاق الفضاء، في ما يصنعه لهم من ظروفٍ وأوضاعٍ، وما يهيئه لهم من وسائل. وبذلك يكون الإيمان الإيجابي المتحرك، هو الأساس في حركة الحرية، وفي ارتفاع مستوى التحدي من جهة، وردّه من جهةٍ أخرى...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا، في النقاط القريبة والبعيدة، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي الجبال والأماكن الأخرى، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية. وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟! ولم الركون إلى حياة الذل والاستكانة والفجور؟! ولم تظل سادراً تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضاً من داخل هذه الدائرة المظلمة، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!. فأنت يوم كنت جنيناً محبوساً في بطن أُمّك، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأُمك الرؤوم، لم ينسك الله الذي خلقك، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟! وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا: (وهو السميع العليم)...