نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة ، لا مال ولا أهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فكأيّ من متوكل عليه كفاه ، ولم يحوجه إلى أحد سواه ، فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه : { وكأيّن من دابة } أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها { لا تحمل } أي لا تطيق أن تحمل { رزقها } ولا تدخر شيئاً لساعة أخرى ، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك ، وقد تدركه وتتوكل ، أو لا تجد .

ولما كان موضع أن يقال : فمن يرزقها ؟ قال جواباً له : { الله } أي المحيط علماً وقدرة ، المتصف بكل كمال { يرزقها } وهي لا تدخر { وإياكم } وأنتم تدخرون ، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم ، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون ، فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظورا إليه .

ولما كان أهم ما للحيوان الرزق ، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقاً ويهمهم به إن كان صامتاً ، أما العاقل فبأمور كلية ، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية ، وكان العاقل ربما قال : إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك ، قال تعالى : { وهو السميع } أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره { العليم* } أي بما يعلم من ذلك ، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم ، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه ، وهو قادر على أن يسبب لما اعتمد عليه الإنسان من الأسباب المنتجة عنده ولا بد ما يعطله ، وعلى أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيه ، ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف - نفعنا الله بهم - وجد كثيراً من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره .