اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان }{[3637]} فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو .
قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال ، وأسند الطبري رحمه الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى{[3638]} ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة .
قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً ، منهم رافع بن المعلى{[3639]} ، وأبو حذيفة بن عتبة{[3640]} ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3641]} ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة ؟ أم على المؤمنين جميعاً ؟ و «استزل » - معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : { ببعض ما كسبوا } إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار{[3642]} ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي{[3643]} ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، { عفا الله عنهم } إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها{[3644]} .
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر
أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .
والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .
( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .
وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .
وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.