المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان }{[3637]} فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو .

قال القاضي أبو محمد : يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفاً لقتال ، وأسند الطبري رحمه الله قال : خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى{[3638]} ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ، قال قتادة : هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه ، وعفا الله عنهم هذه الزلة ، قال ابن فورك : لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً ، أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسائرهم من الانصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة .

قال القاضي : جعل الفرار إلى الجبل تحيزاً إلى فئة ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فراراً كثيراً ، منهم رافع بن المعلى{[3639]} ، وأبو حذيفة بن عتبة{[3640]} ورجل آخر ، قال ابن إسحاق : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد ، ورجلان من الأنصار زرقيان ، حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص ، فأقاموا به ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة{[3641]} ، قال ابن زيد : فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة ؟ أم على المؤمنين جميعاً ؟ و «استزل » - معناه طلب منهم أن يزلوا ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، وقوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } ظاهره عند جمهور المفسرين : أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم ، وبخلق ما اكتسبوه أيضاً هم من الفرار ، وذهب الزجّاج وغيره : إلى أن المعنى ، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، قال المهدوي : بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله : { ببعض ما كسبوا } إلى هذه العبرة ، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم ، فهو شريك في بعضه ، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم ، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة ، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبد الله بن عدي بن الخيار{[3642]} ، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي{[3643]} ، وقال ابن جريج : معنى الآية ، { عفا الله عنهم } إذ لم يعاقبهم ، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها{[3644]} .


[3637]:- الجمعان: تثنية الجمع-وهي: اسم جمع. وقد نص النحويون على أن اسم الجمع لا يثنى. ولكنه هنا أراد جمع المؤمنين وجمع المشركين فلذلك صحت تثنيته، ونظير ذلك قوله: وكل رفيقي كل رحل وإن هما تعاطى القنا قوماهما أخوان فقد ثنى (قوما) لأنه أراد معنى القبيلة.
[3638]:- أنزو: أثب وأقفز-والأروى: اسم للجميع- تيوس الجبل.
[3639]:- هو رافع بن المعلى الأنصاري الزرقي، له ذكر في ترجمة درة بنت أبي لهب، روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان} أن الآية نزلت في عثمان بن رافع بن المعلى. "الإصابة1/498". والذي يحتمل أن تكون نزلت هذه الآية في عثمان ورافع بن المعلى لأنهما معا فرا يوم أحد.
[3640]:- هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي العبشمي، كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، استشهد يوم اليمامة وهو ابن ست وخمسين سنة. "الإصابة 4/42".
[3641]:- تقدم تخريجه عند قوله تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض (آل عمران: 132). ص 325 من هذا الجزء.
[3642]:- راجعنا حديث عثمان مع عدي بن الخيار فلم نجد فيه التأويل، وورد هذا التأول في رواية شقيق عن عبد الرحمن بن عوف. (مجمع الزوائد9/83) وقد روى الإمام أحمد، وأبو يعلى والطبري، والبزار بإسناد حسن عن عاصم عن شقيق قال: لقي عبد الرحمان بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: مالي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عينين [جبل من جبال أحد] قال عاصم: يقول: يوم أحد- ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان، قال: فقال أما قوله: إني لم أفر يوم عينين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عنه فقال: [إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم، إن الله غفور رحيم]، وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله بسهم فقد شهد، وأما قوله: إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك. وهذا هو التأول الذي تأوله عثمان رضي الله عنه.
[3643]:- أخرجه البخاري، والترمذي عن عثمان بن موهب، كل في "باب المناقب". وفي البخاري، والترمذي أن الرجل السائل من أهل مصر.
[3644]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة، وهو صحيح. "الجامع الصغير1/26" كما أخرجه الطبراني عن أبي سعيد. وهو صحيح (الجامع الصغير 2/254).