غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

151

قوله عز من قائل : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } يعني يوم أحد ، وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا .

ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل . ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن : أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون ؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل أغزل . وقال بعض الرواة : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفراً قليلاً تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب . وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هنالك- ومن المنهزمين عمر- إلا انه لم يكن في أوائل المنهزمين . ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم أيضاً عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار - يقال لهما سعد وعقبة - انهزموا حتى بلغوا موضعاً بعيداً ، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : لقد ذهبتم فيها عريضة . وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلاً . سبعة من المهاجرين : أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبو عبيدة بن الجراح ، والزبير بن العوّام . وسبعة من الأنصار : الحباب بن المنذر ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحرث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ . وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير . وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحرث بن الصمة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف . ثم لم يقتل منهم أحد . وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع { إنما استزلهم الشيطان } تقول : زللت يا فلان تزل زليلاً إذا زل في طين أو منطق . والاسم الزلة ، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها . والباء في { ببعض ما كسبوا } للاستعانة مثلها في : كتبت بالقلم . والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي . وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : قال الزجاج : إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوباً كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلى على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة . فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه . وقيل : إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز ، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة . وقيل : كانت لهم ذنوب قد تقدمت ، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفاً فيها .

وإنما قال : { ببعض ما كسبوا } لأن الكسب قد يكون خيراً كقوله :{ لها ما كسبت }[ البقرة : 134 ، 141 ، 286 ] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى :30 ] وقال الحسن : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة . ويحتمل أن تكون الباء بمعنى " في " أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال . إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة ، فاقترفوا ذنوباً فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا . وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي ، وإنما يكون أعمالاً أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها . { ولقد عفا الله عنهم } فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز . بقي البحث في أنه أي ذنب هو ؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله . ثم إنه من الصغائر أو من الكبائر ؟ قالت المعتزلة : كلاهما محتمل . لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة ، وإن كان من الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية . قال القاضي : الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة ، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة ، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة ، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر . قالت الأشاعرة : إنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص . وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة - والأصل عدم الإضمار - غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط .

/خ160