{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ } الدبر عن المشركين بأحد { مّنكُمْ } أيها المسلمون ، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة { يَوْمَ التقى الجمعان } وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبي سفيان . { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا ، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه ، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه ، وحينئذٍ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ومعنى السببية انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة ، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن ، وإما مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة ، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج : إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية ، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله :
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالت ودها غول
وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم } [ لقمان : 8 ] لأن ببعض ما كسبوا يأباه ويحقق التحقيق ، وهو أيضاً من باب الترديد للتعليق كقوله :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسها حجر مسته سراء
لأن إنما استزلهم الخ خبر إن ، وزيد إن للتوكيد وطول الكلام ، و ما لتكفها عن العمل ، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض الخ فهو كقولك : إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه ، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال ، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] .
{ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } . أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيداً لطمع المذنبين فيه ومنعاً لهم عن اليأس وتحسيناً للظنون بأتم وجه ، وقد يقال : هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر ، { أَنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب صغائرها وكبائرها { حَلِيمٌ } لا يعاجل بعقوبة المذنب ، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم ، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، إلا ثلاثة عشر نفساً خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ؛ ومن مشاهير المنهزمين ، عثمان ، ورافع بن المعلى ، وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول ، وعن غيره ، غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء ، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد ذهبتم بها عريضة ، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل ، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافاً للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع ، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان } جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من الذنوب لأنها تورث الظلمة ، والشيطان لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب ، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة { أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ آل عمران : 155 ] وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى . ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » . وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله : اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفاً من قلبه يقول يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.