المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

وقوله تعالى : { فلما سمعت بمكرهن } الآية ، إنما سمي قولهن مكراً من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن ، وقيل : { مكرهن } أنهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن إياه ، وهذا لا يكون مكراً إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها .

ومعنى { أرسلت إليهن } أي ليحضرن ، و { أعتدت } معناه : أعدت ويسرت ، و { متكأ } ما يتكأ عليه من فرش ووسائد ، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة ، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب ، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ » بالطعام ؛ قال ابن عباس : { متكأ } معناه مجلساً ، ذكره الزهراوي . وقال القتبي : يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا .

وقوله : { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين ، فقيل كان لحماً ، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين ؛ وقيل : كان أترجاً{[6658]} ، وقيل : كان زماورد{[6659]} ، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد ، وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط .

وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تُكاً » بضم الميم وتنوين الكاف . واختلف في معناه ، فقيل : هو الأترنج ، وقيل : هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره ، وأنشد الطبري :

نشرب الإثم بالصواع جهاراً*** وترى المتك بيننا مستعارا{[6660]}

وقرأ الجمهور : «متَّكأ » بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر ، وقرأ الزهري : «متّكا » مشدد التاء من غير همز - وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح ، وقرأ الحسن «متكاء » بالمد على إشباع الحركة .

و «السكين » تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء{[6661]} ، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير .

وقولها : { اخرج } أمر ليوسف ، وأطاعها بحسب الملك ، وقال مكي والمهدوي : قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً في القصص ، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد ، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية ، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين ، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] وهذا يدل على قلة الغيرة ، ثم سكن الأمر بأن قال : { يوسف أعرض عن هذا } [ يوسف : 29 ] وأنت { استغفري } [ يوسف : 29 ] وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة ، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك ، لأن دليل القميص لم يكن قاطعاً وإنما كان أمارة ما ؛ هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً .

وقوله : { أكبرنه } معناه : أعظمنه واستهولن جماله ، هذا قول الجمهور ، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده : معناه : حضن ، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل : [ البسيط ]

يأتي النساء على أطهارهنّ ولا*** يأتي النساءَ إذا أكبرن إكبارا{[6662]}

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف من معناه منكور ، والبيت مصنوع مختلف - كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله .

وقوله : { وقطّعن أيديهن } أي كثرن الحز فيها بالسكاكين ، وقال عكرمة : «الأيدي » هنا الأكمام ، وقال مجاهد هي الجوارح ، وقطعنها حتى ألقينها .

قال القاضي أبو محمد : فظاهر هذا أنه بانت الأيدي ، وذلك ضعيف من معناه ، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة ، ومحال أن يسهو أحد عنها ، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد ، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزاً ، وهذا قول الجماعة .

وضوعفت الطاء في { قطّعن } لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مراراً .

وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى لله » وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله » ، وقرأ سائر السبعة «حاش لله ، وفرقة » حشا{[6663]} لله «وهي لغة ، وقرأ الحسن » حاش لله{[6664]} «بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن - أيضاً - » حاش الإلاه «محذوفاً من » حاشى « . فأما » حاش «فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء ، كذا قال سيبويه ، وقد ينصب به ، تقول : حاشى زيد وحاشى زيداً ، قال المبرد : النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم : حاش لزيد ، والحرف لا يحذف منه .

قال القاضي أبو محمد : يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير ، وأن الفعل هو الذي ينصب به ، فهذه اللفظة تستعمل فعلاً وحرفاً ، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل ، وذلك في قراءة من قرأ » حاشى لله{[6665]} «معناه مأخوذ من معنى الحرف ، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به ، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى ، ومن ذلك قول الشاعر : [ المعطل الهذلي ] .

يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله*** بأي الحشى صار الخليط المباين{[6666]}

ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له ، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية ، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر ، والحروف لا تدخل بعضها على بعض ، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين » حاش «على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر ، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل : لعل ، فيحذف ، ويرجع عل ، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله .

قال القاضي أبو محمد : ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة : فحاشى بالناس ، فمعنى » حاشى لله «أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به{[6667]} ، أو يدعى{[6668]} إله مثله لأن تلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم إنما هو ملك - هكذا رتب أبو علي الفارسي معنى هذا الكلام ، على هاتين القراءتين اللتين في السبع{[6669]} - وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ، فعلى أن » حاشى «حرف استثناء - كما قال الشاعر [ ابن عطية ] : [ الكامل ]

حاشى أبي ثوبان إنَّ به*** ضنّاً عن الملحاة والشتم{[6670]}

وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن ، ضعيف ، جمع بين ساكنين ، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى » .

قال القاضي أبو محمد : والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى .

وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملِك كريم » بكسر اللام في «ملِك » ، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن : ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء ، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكاً كريماً .

ونصب «البشر » من قوله : { ما هذا بشراً } هو على لغة الحجاز شبهت { ما } بليس ، وأما تميم فترفع ، ولم يقرأ به{[6671]} .

وروي أن يوسف عليه السلام أعطي ثلث الحسن ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أعطي نصف الحسن ، ففي بعض الأسانيد هو وأمه ، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه{[6672]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التمثيل ، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه ، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال{[6673]} .


[6658]:الأترج: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، ذكي الرائحة، حامض الماء "مجمع اللغة العربية بالقاهرة"، نقلا عن (المعجم الوسيط).
[6659]:الزماورد – هكذا ضبطه شارح اللسان نقلا عن القاموس، وقال: هو طعام من البيض واللحم معرب، وقيل: هو الرقاق الملفوف باللحم، وفي اللسان أيضا: "ابن سيدة: المتك: الأترج، قال الجوهري: وأصل المتك: الزماورد".
[6660]:البيت في الطبري واللسان والقرطبي وغيرها، وهو غير منسوب، والإثم: الخمر، قاله بعضهم، واستشهد بقول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول والصواع: إناء يشرب فيه، مذكر، وفي التنزيل {قالوا نفقد صواع الملك} وهو الإناء الذي كان الملك يشرب منه، وجهارا: علانية، والمتك: الأترج، وسميت الأترجة متكا لأنها تقطع، ومعنى [مستعارا]: نتعاوره بأيدينا نشتمه، قاله في اللسان. والرواية في اللسان: (المسك) بدلا من (المتك).
[6661]:وأنشد الفراء: فعيث في السنام غداة قـــر بسكين موثقة النصـــــــاب
[6662]:البيت في (اللسان) و (الطبري) و (القرطبي) بلفظ "نأتي"، وبعض المفسرين مثل السدي وقتادة ومقاتل يقولون: أكبرن بمعنى حضن ويستشهدون بالبيت على أن هذا من كلام العرب المعروف، وبعض آخر ينكرون ذلك ومعهم اللغويون، قال أبو عبيدة: "ليس ذلك في كلام العرب، ولكن يجوز أن يكن حضن من شدة الإعظام كما تفزع المرأة فيسقط ولدها"، وقال الزجاج: "يقال : أكبرنه، ولا يقال: حضنه"، وقد قبل بعض اللغويين هذا المعنى، وفي (اللسان) عن أبي منصور الأزهري: "إن صحت هذه اللفظة في اللغة بمعنى "حضن" فلها مخرج حسن، وذلك أن المرأة أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغر إلى حد الكبر، فقيل لها: أكبرت أي حاضت، وروي عن أبي الهيثم أنه قال: سألت رجلا من طي، فقلت: يا أخا طيء ألك زوجة؟ قال: لا، والله ما تزوجت، وقد وعدت ابنة عم لي، قلت: و ما سنها؟ قال: قد أكبرت أو كبرت، قلت: ما أكبرت؟ قال: حاضت". إلا أن الهاء في قوله سبحانه: (أكبرنه) تنفي هذا المعنى، قال بعضهم: يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، ورد بأن هذا خطأ، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: "إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي: أكبرن إكبارا، بمعنى: حضن حيضا".
[6663]:قال أبو حيان في "البحر المحيط": "على وزن رمى وبلام الجر". وقال: ومن الفرقة الأعمش.
[6664]:عبارة البحر: "وقرأ الحسن (حاشْ) بسكون الشين وصلا ووقفا بلام الجر. وعلق عليها ابن جني بقوله: وهذا ضعيف من موضعين: أحدهما التقاء الساكنين: الألف والشين، وليست الشين مدغمة، والآخر: إسكان الشين بعد حذف الألف.
[6665]:أصح القراءات في هذه الكلمة قراءاتان: الأولى قراءة الكوفيين: {حاش لله} بفتح الشين وحذف الياء، والثانية قراءة بعض البصريين: {حاشى لله} بإثبات الياء، قال ذلك الطبري. وعلى هذا يمكن فهم الكثير من كلام ابن عطية، فهو هنا يشير إلى قراءة البصريين.
[6666]:البيت للمعطل الهذلي، قال ذلك في التاج، وفي اللسان، والرواية فيهما: يقول الذي أمسى إلى الحزن أهله بأي الحشى أمسى الخليط المباين؟. ومعنى "الحشى": الناحية.
[6667]:كأن الكلام موجه من النسوة لامرأة العزيز، فالمعنى: رفعه الله أن يرميه أحد بما رميته به يا زليخا.
[6668]:في بعض النسخ: أو "يذعن" من الإذعان، والمعنى على اللفظتين وارد ومناسب.
[6669]:يريد قراءة بعض البصريين {حاشى لله} بإثبات الياء، وقراءة الكوفيين: {حاش لله} بحذف الياء.
[6670]:يروى "أبا" مكان أبي، والبيت في الحقيقة من بيتين، ركبوا فيه صدر بيت على عجز بيت آخر، قال ذلك في "البحر المحيط" والبيتان هما: حاشى أبي ثوبان إن أبــــــا ثوبان ليس ببكمة فـدم عمرو بن عبد الله إن بــــه ضنا عن الملحة والشتم أراد بالبكمة: الأبكم، والفدم: العيي عن الكلام في ثقل فهم، والضن بالكسر والفتح: مصدر ضن، والملحاة: المنازعة والخصام. والبيت منسوب لسبرة بن عمرو الأسدي في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، وفي "المفضليات" و "الأصمعيات" إلى الجميح، (وقيل: الجميع)، واسمه: منقذ بن الطماح الأسدي، ونسبه في (اللسان) إلى سبرة، والرواية فيه: (حاشى أبي مروان . . . ) والشاعر بمدح أبا ثوبان بأنه ليس عييا ولا غبيا، وهو يترفع عن الخصومة والنزاع.
[6671]:قال الزمخشري: "ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ (بشر) بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود".
[6672]:أخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن)، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ربيعة الجرشي رضي الله عنه قال: "قسم الله الحسن نصفين، فجعل ليوسف وسارة النصف، وقسم النصف الآخر بين سائر الناس" (الدر المنثور).
[6673]:معنى كلام ابن عطية أن الناس تشبه برءوس الشياطين وبأنياب الأغوال في مواقف التقبيح أو التهويل مع أنها لم تر الشياطين ولا الأغوال، وكذلك كان تشبيه يوسف بالملك في الحسن على سبيل الظن بأن صورة الملك أحسن، مع أن النسوة لم يرين الملك، وهذا مألوف ودارج عن الألسنة.