المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

وقوله { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث{[7526]} لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر { الذل } هنا ولم يذكر في قوله { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }{[7527]} وذلك بحسب عظم الحق هنا ، وقرأ الجمهور «الذُّل » بضم الذال ، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير «الذِل » بكسر الذال ، ورويت عن عاصم بن أبي النجود ، و «الذل » في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول{[7528]} ، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

«أبعده الله وأسحقه » قالوا من يا رسول الله ؟ قال : «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له »{[7529]} وقوله { من الرحمة } ، { من } هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون لابتداء الغاية ، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما ، وهذا كله في الأبوين المؤمنين ، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى ، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ ، وليس هذا موضع نسخ .


[7526]:أي: اجعل نفسك لينة سهلة، يقال: ديث الأمر: لينه، وديث الطريق: وطأه، وفي كلام الإمام علي كرم الله وجهه: "وديث بالصغار" أي: ذلل . وقد نقلت الكلمة محرفة في (البحر) إلى: دمث.
[7527]:الآية (215) من سورة (الشعراء)، ومثلها قوله تبارك وتعالى في الآية (88) من سورة (الحجر): {واخفض جناحك للمؤمنين}.
[7528]:ومن هذا المعنى قوله تعالى في الآية (71) من سورة (البقرة): {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث}. وقوله تعالى في الآية (72) من سورة (يسن): {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون}.
[7529]:أخرجه أحمد، والبيهقي، عن أبي مالك رضي الله عنه، ولفظه كما في الدر المنثور: (من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه)، والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة، ومنها المشهور المتداول بين الناس.