البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } .

وقال القفال في تقريره وجهان .

أحدهما : أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك .

الثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه .

وقال ابن عطية : استعارة أي اقطِعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } وذلك بسبب عظم الحق انتهى .

وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { جناح الذل } ؟ قلت : فيه وجهان .

أحدهما : أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال : { واخفض جناحك للمؤمنين } فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول .

والثاني : أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى .

والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه .

وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله :

لا تسقني ماء الملام فإنني . . . ***صب قد استعذبت ماء بكائيا

جاءه رجل بقصعة وقال له أعطني شيئاً من ماء الملام ، فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل .

وجناحا الإنسان جانباه ، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما .

وقال بعض المتأخرين فأحسن :

أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى***فلم أستطع من أرضهم طيرانا

وقرأ الجمهور { من الذل } بضم الذال .

وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة ، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس ، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر .

قال أبو البقاء : { من الرحمة } أي من أجل الرحمة ، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة باخفض ، ويجوز أن يكون حالاً من جناح .

وقال ابن عطية : من الرحمة هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى .

ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها .

ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيراً ، وتلك الحالة مما تزيده إشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه .

وقال قتادة : نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني { وقل ربِّ ارحمهما } بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } وقيل : هي مخصوصة في حق المشركين .

وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان ، والظاهر أن الكاف في { كما } للتعليل أي { رب ارحمهما } لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار .

وقال الحوفي : الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً .

وقال أبو البقاء : { كما } نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما .

وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم .