فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

{ واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير ، فكأنه قال للولد : أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك . والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع ؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان : الأوّل : أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : حاتم الجود ، فالأصل فيه : الجناح الذليل ، والثاني : سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً ، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً . وقرأ الجمهور ( الذلّ ) بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير بكسر الذال ، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم ، من قولهم : دابة ذلول ، بنية الذل ، أي : منقادة سهلة لا صعوبة فيها ، و{ من الرحمة } فيه معنى التعليل ، أي : من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ثم كأنه قال له سبحانه : ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن { قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : رحمة مثل تربيتهما لي ، أو مثل رحمتهما لي ، وقيل : ليس المراد رحمة مثل الرحمة ، بل الكاف لاقترانهما في الوجود ، فلتقع هذه كما وقعت تلك . والتربية : التنمية ، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل تربيتهما ، لي كقوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] . ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم .

/خ24