فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

وقرىء : «جناح الذل » ، الذل : بالضم والكسر فإن قلت : ما معنى قوله { جَنَاحَ الذل } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك كما قال { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذل أو الذلّ ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول . والثاني : أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحاً خفيضاً ، كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقوة زماماً ، مبالغة في التذلل والتواضع لهما { مِنَ الرحمة } من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك عليهم التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية ، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . فإن قلت : الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين . قلت : وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان ، وأن يدعو الله لهما بالهداية والارشاد ، ومن الناس من قال : كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ . وسئل ابن عيينة ، عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ، ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين . ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " رضا الله في رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما " وروي : «يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة » وروي سعيد بن المسيب : إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء . وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ماولياً مني في الصغر ، فهل قضيتهما ؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما . وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله ، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا ، فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي ، وفقيراً وأنا غنيّ ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي ، واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غنيّ ، ويبخل علي بماله ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك ، أنت ومالك لأبيك " وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر ؟ قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين ؟ قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها ؟ قال : لقد جازيتها . قال : ما فعلت ؟ قال : حججت بها على عاتقي . قال : ما جزيتها ولو طلقة وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول :

إنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لاَ تُذْعَر *** إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لاَ تَنْفِر

مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَر *** اللَّهُ رَبِّي ذُو الْجَلاَلِ الأَكْبَرُ

ثم قال تظنني جازيتها يا ابن عمر ؟ قال : لا ولو زفرة واحدة وعنه عليه الصلاة والسلام : «إياكم وعقوق الوالدين ، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء ، إنّ الكبرياء لله رب العالمين »

وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة ، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر . ويأخذ الإناء منه إذا شربها وعن أبي يوسف : إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد . وعن حذيفة : أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين ، فقال : دعه يليه غيرك . وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل . وسئل بعضهم فقال : أن لا ترفع صوتك عليهما ، ولا تنظر شزراً إليهما ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن ، وأن تترحم عليهما ما عاشا ، وتدعو لهما إذا ماتا ، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما . فعن النبيّ صلى الله عليه وسلم . «إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه » .