فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( 24 ) }

{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } قال سعيد بن جبير : اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ ، ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين :

الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير ، فكأنه قال للولد اكفل لوالديك بأن تضمهما إلى نفسك لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك وكنت مفتقرا إليهما .

والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خفض الجناح كناية بليغة عن التواضع وترك الارتفاع ، وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان .

الأول : أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك حاتم الجود فالأصل فيه الجناح الذليل .

والثاني : سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا والذل من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذليل ، وقرئ بكسر الذال من قولهم دابة ذلول بينة الذل أي منقادة سهلة لا صعوبة فيها .

وقوله : { مِنَ الرَّحْمَةِ } فيه معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، قال السمين وفي { من } ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها للتعليل .

والثاني : أنها ابتدائية ؛ قال ابن عطية : أي أن هذا الخفض يكون ناشئا من الرحمة المستكنة في النفس .

الثالث : أنها نصب على الحال من جناح ؛ ثم كأنه قال له سبحانه ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها { وَ } لكن { قُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا } أي وادع الله لهما ولو خمس مرات في اليوم والليلة أن يرحمهما برحمته الباقية الدائمة وأراد به إذا كانا مسلمين { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } أي رحمة مثل تربيتهما لي قدره الحوفي أو مثل رحمتهما إلي ، قدره أبو البقاء وقيل ليس المراد رحمة مثل الرحمة بل الكاف لاقترانهما في الوجود أي فلتقع هذه كما وقعت تلك والتربية التنمية .

ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي كقوله { واذكروه كما هداكم } ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها وإن يذل ويخضع لهما ، ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما ، وهذه خمسة أشياء كلف الإنسان بها في حق الوالدين ، وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وهي معروفة في كتب الحديث .