السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

والرابع قوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة } أي : لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة . قال القفال : وفي تقريره وجهان :

الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك .

والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين . فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟ أجيب : بوجهين : الأوّل : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل ، الثاني : أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله :

وغداة ريح قد كشفت وقرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله :

لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبّ قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل بقصعة وقال له : اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم :

راشوا جناحي ثم بلوه بالندى *** فلم أستطع من حبهم أن أطيرا

الخامس قوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين ، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى : { ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } [ التوبة ، 113 ] بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما . وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال : لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن ، وأن تترحم عليهما ما عاشا . وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه » .

تنبيه : قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي ؟ فقال : أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك » . ومنها عنه أيضاً أنه قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه . قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة » . ومنها ما روي عنه أيضاً أنه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه » . ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد . فقال : أحيّ والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد » . ومنها ما رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «رضا الرب في رضا الوالدين ، وسخط الرب في سخط الوالدين » . ومنها ما «روي عن أبي الدرداء أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيِّع » . ومنها ما «روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أيّ ؟ قال : برّ الوالدين . قلت : ثم أيّ ؟ قال : الجهاد في سبيل الله » . وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال : ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع لهم من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الوالدين . ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الوصية بالوالدين . ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما » . ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب أنّ البارّ بوالديه لا يموت ميتة سوء . ومنها ما «روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنى ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما » . ومنها ما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة » . ومنها ما روي «أنّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعاه فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قويّ وفقيراً وأنا غنيّ فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك » . وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال : «لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال : إنها سيئة الخلق قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال : إنها سيئة الخلق . قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها قال : لقد جازيتها . قال : ما فعلت ؟ قال : حججت بها على عنقي . قال : ما جزيتها » . وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول :

أنا لها مطية لا تذعر *** إذا الركائب نفرت لا تنفر

ما حملت وأرضعتني أكثر *** الله ربي ذو الجلال الأكبر

تظنني جزيتها يا ابن عمر قال : لا ، والله ولا زفرة واحدة .