المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم وأعرضوا ، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرداً أعمى توالد فيه وخرقه شيئاً بعد شيء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فيحتمل ذلك السد ، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار ، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه ، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولاً فتعطل سقي الجنات ، واختلف الناس في لفظة { العرم } فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : { العرم } في لغة اليمن : جمع عرمة : وهو كل ما بني أو سنم{[9632]} ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة .

قال الفقيه الإمام القاضي : كأنها الجسور{[9633]} والسداد{[9634]} ونحوها ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :

وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب . . . عفا عليها العرم

رخام بناه لهم حمير . . . إذا جاءه موارة لم يرم{[9635]}

ومنه قول الآخر :

ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ . . . يبنون من دون سيله العرما{[9636]}

وقال ابن عباس وقتادة الضحاك { العرم } اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له ، وقال ابن عباس أيضاً إن سيل ذلك الوادي أبداً يصل إلى مكة وينتفع به ، وقال ابن عباس أيضاً { العرم } الشديد .

قال الفقيه الإمام القاضي : فكأنه صفة للسيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب ، وقالت فرقة { العرم } اسم الجرذ .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف ، وقيل { العرم } اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل ، وقوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من «الخمط والأثل » لم يكن جنات ، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوباً جيداً وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا ، وقوله { ذواتي } تثنية ذات ، و «الخمط » شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره ، وقيل «الخمط » كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه ، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه ، و «الأثل » ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح ، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات ، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر ، و «السدر » معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير ، وللخمط ثمر غث هو البريد ، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكْل » بضم الهمزة وسكون الكاف ، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف ، وروي أيضاً عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر ، ومنه قوله تعالى

{ تؤتي أكلها كل حين }{[9637]} [ إبراهيم : 25 ] أي جناها ، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل » وصفته [ خمط ] وما بعده ، قال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن لأن ­الخمط­ ليس بالأكل و­الأكل­ ليس بالخمط نفسه والصفة أيضاً كذلك ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ، ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي [ الطويل ]

عقار كماء الني ليس بخمطة . . . ولا خلة يكوي الشروب شهابها{[9638]}

وقرأ أبو عمرو بإضافة «أكلِ » إلى «خمطٍ » وبضم كاف «أكلُ خمطٍ » ، ورجع أبو علي قراءة الإضافة .


[9632]:سنِم الشيء: ارتفع على وجه الأرض، فهو سنم، وهي سنِمة، ومنه: سنِم البعير بمعنى: عظم سَنَامه.
[9633]:قال النحاس: المُسنّاة: هي التي يسميها أهل مضر الجسر.
[9634]:السِّداد: ما سددت به خللا، ويقال: سِداد القارورة: لما يسد فمها.
[9635]:هما من قصيدة قالها الأعشى يمدح قيس بن معد يكرب، والإشارة بقوله:(ففي ذلك) إلى الموت في البيت قبلهما: وللموت خير لمن ناله إذا المرء أمته لم تدم والرواية في الديوان:(ومأرب قفى) بدلا من(عفى)، والموّار: المضطرب المتحرك، وفي الديوان:(إذا جاء ماؤهم)، وفسر أبو عبيدة قوله:(لم يرم) فقال: أي حبسه. وبعد البيتين يقول: فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم فعاشوا بذلك في غبطة فجار بهم جارف منهزم
[9636]:البيت في(اللسان-سبأ) غير منسوب، قال:"وكان أبو عمرو يقرأ:(لسبأ)، قال: من سبأ...البيت"، فهو شاهد على أن (سبأ) يترك صرفه على إرادة القبيلة، كما انه يصرف على إرادة الحي كما قال ابن عطية، وشاهده: أضحت ينفرها الولدان من سبأ كأنهم تحت دفيها دحاريج
[9637]:من الآية(25) من سورة (إبراهيم).
[9638]:البيت في (اللسان-خلل)، والعُقار: التي تعاقر العقل أو الدن، أي: بقي منها بقية في أسفل الدن لطول مر السنين عليها، وماء النيء: ما قطر من اللحم، يريد: هي في لونه وصفائه، والخمطة: التي أخذت طعم الإدراك ولم تدرك، والخلة: الحامضة، ولا خلة: في مجاوزة القدر، يعني لم تخرج من حال الخمر إلى حال الحموضة والخل، يقول: هي في لون ماء اللحم الذي لم ينضج بعد، وليست كالخمطة التي لم تدرك بعد، ولا كالخلة التي جاوزت القدر فصارت خلا، فليس يكوى الشروب شهابها، أي: لا يؤذيهم ما فيها من حذة ونار، والشُّروب: جمع شرب وهم الندامى.