نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر ، دل على ذلك بقوله : { فأعرضوا } ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم ، بينه بقوله : { فأرسلنا } ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم سيل العرم } أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده{[56646]} شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة ، وهي الشدة والقوة ، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به ، قال أبو حيان{[56647]} : سلط الله عليهم الجرذ{[56648]} فاراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، فخرقه شيئاً بعد شيء ، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل{[56649]} ذلك السد{[56650]} فروي أنه كان من العظم وكثرة{[56651]} الماء بحيث ملأ{[56652]} ما بين الجبلين ، وحمل الجنان{[56653]} وكثيراً{[56654]} من الناس ممن لم يمكنه الفرار . ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا ، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا : تفرقوا{[56655]} أيدي سبا وأيادي سبا{[56656]} ، والأوس والخزرج منهم ، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وبدلناهم بجنتيهم } أي جعلنا لهم بدلهما{[56657]} { جنتين } هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم : { ذواتي أكل } أي ثمر { خمط } وقراءة الجماعة{[56658]} بتنوين { أكل } أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة .

ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب ، والله أعلم بما أراد منه ، لأنه ضرب من الإراك ، له ثمر يؤكل ، وكل شجرة مرة ذات شوك{[56659]} ، والحامض أو المر من كل شيء ، وكل نبت أخذ{[56660]} طعماً من مرارة حتى لا يؤكل ، ولا{[56661]} يمكن أكله ، وثمر يقال له {[56662]}فسوة الضبع{[56663]} على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به ، والحمل القليل من كل شجر ، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال : { وأثل } أي و{[56664]} ذواتي أثل ، وهو شجر لا ثمر له ، نوع من الطرفاء ، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال : { وشيء من سدر } أي نبق { قليل * } وهذا يدل على أن غير السدر وهو{[56665]} ما لا منفعة فيه{[56666]} أو منفعته{[56667]} مشوبة بكدر أكثر من السدر ؛ وقال أبو حيان{[56668]} : إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر ، قال : وقال الأزهري : السدر سدران : سدر لا ينتفع به ولا يصلح{[56669]} ورقه للغسول{[56670]} ، وله ثمرة عفصة لا تؤكل ، وهذا{[56671]} الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقة الغسول{[56672]} يشبه العناب{[56673]} . وقد سبق الوعد في البقرة{[56674]} ببيان مطلب{[56675]} ما يفيده دخول الجار مع مادة " بدل " فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال والتبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك ، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر ، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية شمس الدين{[56676]} محمد بن علي القاياتي{[56677]} رحمه الله فقال فيما علقته عنه وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنووي رحمه الله : اعلم أن هذه المادة - أعني{[56678]} الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها المتقابلان فقط وقد يذكر معهما{[56679]} غيرهما ، وقد لا يكون كذلك ، فإن اقتصر عليهما فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء كما في قوله تعالى أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }{[56680]}[ البقرة : 61 ] وفي قوله تعالى :{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان }[ البقرة : 108 ] الآية{[56681]} ، فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء ، فالباء داخلة على الحاصل ، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك ، نقل الأزهري عن ثعلب : بدلت الخاتم بالحلقة - إذا أذبته وسويته حلقة ، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتماً ، وأبدلت الخاتم بالحلقة - {[56682]}إذا نحيت{[56683]} هذا وجعلت هذه مكانه ، وحكى الهروي{[56684]} في الغريبين{[56685]} عن ابن عرفة يعني{[56686]} نفطويه أنه قال : التبديل : تغيير الشيء عن حاله ، والإبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وتحقيقه أن معنى التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة ، فحيث ذكر المتقابلان وقيل{[56687]} : " بدلت هذا بذاك{[56688]} " رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا ، فإذا قيل : بدل الشيء بغيره ، فمعناه غير الشيء بغيره ، أي ترك الأول وأخذ الثاني ، فكانت الباء داخلة على المأخوذ {[56689]}لا المنحى{[56690]} ، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية{[56691]} الشيء وجعل غيره مكانه ، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى ، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر ، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى{ أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات }{[56692]}[ الكهف :81 ] { فأردنا أن يبدلها ربهما خيراً منه زكاة }{[56693]}[ الفرقان : 70 ] الآية{[56694]} بمعنى{[56695]} يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما{[56696]} بدل ما كان لهما خيراً وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى :{ بدلناهم جلوداً غيرها }{[56697]}[ النساء : 56 ] ومعنى التبدل{[56698]} والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره ، فإذا قلت : استبدلت هذا بذاك{[56699]} ، أو تبدلت هذا بذاك ، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك ، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجارّ وذكر التبديل كما في قوله تعالى { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعني إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه ، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في " بدله بخوفه أمناً " ومعناه : أزال خوفه إلى الأمن ، وقد يتعدى إلى المذهوب والحالة هذه - بمن كما في " بدله من خوفه أمناً " وللتبديل أيضاً استعمال آخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل : بدلت الشيء أي غيرته ، قال تعالى{ فمن بدله بعد ما سمعه }{[56700]}[ البقرة : 181 ] على أن{[56701]} ههنا ما يجب التنبه{[56702]} له وهو أن {[56703]}الشيء يكون{[56704]} مأخوذاً بالقياس والإضافة إلى شيء ، متروكاً بالقياس والإضافة إلى آخر ، كما إذا أعطى شخص شخصاً شيئاً وأخذ{[56705]} بدله منه ، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول ، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر بالتبدل{[56706]} والتبديل ، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه ، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب - انتهى {[56707]}والله أعلم{[56708]} .


[56646]:من م ومد، وفي ظ: لا يرد.
[56647]:في البحر المحيط 7/270.
[56648]:من م ومد والبحر، وفي ظ: الجراد.
[56649]:من م ومد والبحر، وفي ظ: فحل.
[56650]:من م ومد والبحر، وفي ظ: السيل.
[56651]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كثر، وفي البحر: كتر به.
[56652]:من ظ وم ومد والبحر، وفي البحر، وفي الأصل: يملأ.
[56653]:في البحر: الجنات.
[56654]:من ظ وم ومد والبحر، وفي الأصل: كثير.
[56655]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تفارقوا.
[56656]:زيد من ظ وم ومد.
[56657]:من م ومد، وفي الأصل وظ: بدلها.
[56658]:راجع نثر المرجان 5/464.
[56659]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: شكوك.
[56660]:من م ومد، وفي الأصل وظ: أحد.
[56661]:زيد من ظ وم ومد.
[56662]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يسوءه الطبع ـ كذا.
[56663]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يسوءه الطبع ـ كذا.
[56664]:زيد من ظ وم ومد.
[56665]:سقط من ظ.
[56666]:سقط من ظ.
[56667]:سقط من ظ.
[56668]:في النهر ـ راجع هامش البحر المحيط 7/268 و269.
[56669]:من وم ومد والنهر، وفي الأصل: لا يحصل.
[56670]:من ظ وم ومد والنهر، وفي الأصل: المغسول.
[56671]:في النهر: هو.
[56672]:من ظ وم ومد والنهر، وفي الأصل: المغسول.
[56673]:في النهر: شجر العناب.
[56674]:عند آية "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير".
[56675]:سقط من ظ وم ومد.
[56676]:زيد في الأصل: بن، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[56677]:راجع لترجمته ومصادرها معجم المؤلفين 11/61.
[56678]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أن.
[56679]:زيد من ظ وم ومد.
[56680]:راجع آية 61 من سورة البقرة.
[56681]:راجع آية 108 من سورة البقرة.
[56682]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56683]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56684]:هو أبو عبيد.
[56685]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الغريب.
[56686]:سقط من ظ.
[56687]:من مد، وفي الأصل وظ وم: قد.
[56688]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: بذلك.
[56689]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما التحى.
[56690]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما التحى.
[56691]:من مد، وفي الأصل وظ وم: نتيجة.
[56692]:راجع آية 70 من سورة الفرقان.
[56693]:سقط من م ومد.
[56694]:81 من سورة الكهف.
[56695]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعني.
[56696]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعطى لهما.
[56697]:راجع آية 56 من سورة النساء.
[56698]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التبديل.
[56699]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بذلك.
[56700]:راجع آية 181 من سورة البقرة.
[56701]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فإن.
[56702]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التنبيه.
[56703]:من م ومد، وفي الأصل وظ: يكون الشيء.
[56704]:من م ومد، وفي الأصل وظ: يكون الشيء.
[56705]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أحدا.
[56706]:من م ومد، وفي الأصل وظ: بالتبديل.
[56707]:ليس ما بين الرقمين في ظ وم ومد.
[56708]:ليس ما بين الرقمين في ظ وم ومد.