ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : «فَأَعْرَضُوا » من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } [ السجدة : 22 ] قال وهب : أرسل{[44407]} الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ : فَأَعْرَضُوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : { إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } [ السجدة : 22 ] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ .
قوله : { سَيْلَ العرم } العَرِمُ فيه أوجه :
أحدها : أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته{[44408]} في الأصل إذ الأصل : السَّيْلُ العَرِمُ ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه{[44409]} .
الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير{[44410]} .
الثالث : أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً{[44411]} وأنشد ( قول الشاعر ){[44412]} :
4129- مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ . . . يَبْنُونَ مِنْ دون سَيْلِهِ العَرِمَا{[44413]}
أي البناء القوي . قال البغوي : العَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد{[44414]} الذي يحبس الماء .
الرابع : أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء{[44415]} نفسه .
وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق{[44416]} وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث{[44417]} شاء .
الخامس : أنه اسم للجرذ{[44418]} وهو الفأر . قيل : هو الخُلْدُ{[44419]} وإنما أضيف إليه ؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ{[44420]} إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو : غُلاَمُ زَيْدٍ ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ . وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا «تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا » . وقد تقدم{[44421]} .
قال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت{[44422]} ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح{[44423]} فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى ( ثم ){[44424]} من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم{[44425]} .
قوله : { بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن } قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج ، والمنصوب هو الداخل{[44426]} ؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء : فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول : ظاءً بضادٍ{[44427]} .
قوله : { أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ أبو عمرو بإضافة «أُكُلٍ » إلى «خَمْطٍ » . والباقون بتنوينه غير مضاف{[44428]} ، وقد تقدم في البقرة{[44429]} أن ابْنَ عَامِرٍ ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف «أكل » غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها{[44430]} بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب ، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً «لخمط » .
الثانية : لنافع وابن كثير بتسكين كافه وتنوينه .
الثالثة : للباقين ضم كافه وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر{[44431]} .
والخمط قيل : شجر الأَراكَ وثمره يقال له : البَريرُ . ( و ) هذا قول أكثر المفسرين{[44432]} وقيل : كل شجر ذي شوك{[44433]} وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط{[44434]} . وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينتفع به{[44435]} . قال البغوي : من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في «أكل » حسن ومن جعله أصلاً وجعل «الأُكُل » ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه{[44436]} .
قوله : { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ } معطوفان على «أكل » لا على «خمط » لأن الخمط لا أكل له{[44437]} ، وقال مكي : لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل ؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً ؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير «مِنْ » كَقولك : «هذَا ثَوْبُ خَزِّ »{[44438]} . ومن نون فيحتمل أوجهاً :
الأول : أنه جعل «خمطاً » وما بعده إما صفة «لأكُل »{[44439]} . قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع{[44440]} . قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ {[44441]} منه شيءٌ نحو قولهم : «مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج{[44442]} كُلّهٍ » .
الثاني : البدل من «أكل » قال أبو البقاء : وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه ، وكونِهِ سبباً له {[44443]} إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال : لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه{[44444]} ، وقد تقدم جواب أبي البقاء ، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه على حذف مضاف تقديره ذواتي{[44445]} أكُلِ أكل خمطٍ قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة{[44446]} .
الثالث : أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب{[44447]} ، قال : كأنه بين أن الأكل هذه{[44448]} الشجرة ، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف{[44449]} ، والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ . وقيل : شجر يشبه الطرفاء{[44450]} وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على{[44451]} ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص{[44452]} أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسِّدْرُ شجر{[44453]} معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذلك بل كان سدرا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيءٍ ، وقال بعضهم{[44454]} : السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عفصة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغتسال وهو الضال وسدر له ثمرة{[44455]} يؤكل وهو النبق ( و ){[44456]} يغتسل بورقه . والمراد بالآية الأوّل . وقال قتادة : كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم{[44457]} .
قوله : «قَلِيل » نعت ل «سدر » وقيل : نعت «لأُكُل » . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً «لخمط » و «أَثْل » و «سِدْرٍ »{[44458]} وقرئ «وَأَثْلاً وشَيْئاً » بنصبهما عطفاً على «جنَّتَيْنِ »{[44459]}