فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال : { فَأَعْرَضُوا } عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي : بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم وكذا قال وهب وزاد وقالوا : ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم ؛ ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم كما قال :

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الثاني ، ثم من الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذا ففتقت ذلك الردم حتى انتقض ، فدخل الماء جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم ، فهذا هو سيل العرم وهو جمع عرمة وهي السكر التي تحبس الماء ، وكذا قال قتادة وغيره .

وقال السدي : العرم اسم للسد والمعنى أرسلنا عليهم سيل السد العرم ، وقال عطاء : العرم اسم الوادي ، وقال الزجاج : العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم ، وهو الذي يقال له : الخلد فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه . قال ابن الأعرابي : العرم من أسماء الفار ، وقال مجاهد وابن نجيح العرم : ماء أحمر أرسله الله في السد فشقه وهدمه ، وقيل : إن العرم اسم المطر الشديد ، وقيل : اسم للسيل الشديد والعرامة في الأصل الشدة والشراسة والصعوبة ، ويقال : عرم فلان إذا تشدد وتصعب ، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال : العرم السيل الذي لا يطاق . وقال المبرد : العرم كل شيء حاجز بين شيئين وعن ابن عباس قال : العرم الشديد ، وعنه قال : واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة .

{ وبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانت مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة ، والأنواع الحسنة ، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما ، وتسميتهما جنتين تهكم بهم على طريق المشاكلة : لهذا قال :

{ ذَوَاتَي } تثنية ذوات مفرد على الأصل لأن أصله ذويه قالوا : وعين الكلمة والياء لا مها لأنه مؤنث ذو ، وذو أصله ذوي فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الياء فصار ذوات ثم حذفت الواو تخفيفا وفي تثنيته وجهان تارة ينظر للفظه الآن ، فيقال : ذاتان ، وتارة ينظر له قبل حذف الواو فيقال : ذواتان وقال السمين في تثنية ذات لغتان : أحدهما الرد إلى الأصل فإن أصله ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذو ، والثانية تثنيته على اللفظ فيقال ذاتان .

{ أُكُلٍ خَمْطٍ } قرئ : بتنوين أكل وعدم إضافته إلى خمط وقرئ : بالإضافة والأولى أولى ، قال الخليل : الخمط ضرب من الأراك وله حمل يؤكل ، وبه قال ابن عباس وكذا قال كثير من المفسرين وقال

أبو عبيدة : الخمط كل شجرة مرة ذات شوك ، وقيل هو ثمر شجر يقال له : فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ، وقال الزجاج : كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله ، وقال المبرد : كل شيء يغير إلى ما لا يشتهى يقال له : خمط ،

ومنه اللبن إذا تغير والخمط : اسم للمر والحامض من كل شيء والخمط : نعت لأكل أو بدل منه ، لأن الأكل هو الخمط بعينه ، وقال الأخفش : الإضافة أحسن في كلام العرب مثل ثوب خز ودار آجر والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ، ومن معه . قال الجوهري : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل .

{ وَأَثْلٍ } هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره ، قال : إلا أنه أعظم من الطرفاء طولا وورقه كورق الطرفاء ، ومنه اتخذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الواحدة أثلة ، والجمع أثلاث ، وقال الحسن : الأثل الخشب ، وقال أبو عبيدة : هو شجر النظار الأول أولى ولا ثمر للأثل .

{ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } السدر شجر معروف ، قال الفراء هو السمن وقال الأزهري السدر من الشجر سدران : بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول له ثمر عفص لا يؤكل ، وهو الذي يسمى الضال ، والثاني سدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب ، قيل ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعا يطيب أكله وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري ، ولذا يغرس في البساتين قال قتادة بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر ويحتمل أن يرجع قوله ( قليل ) إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر .