المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

{ استوى إلى السماء } معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها .

وقوله تعالى : { وهي دخان } روي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار ، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء ، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها ، وحينئذ قيل لها وللأرض { ائتيا طوعاً أو كرهاً } .

وقرأ الجمهور : «إيتيا » من أتى يأتي «قالتا أتينا » على وزن فعلنا ، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : «آيتيا »{[10044]} من آتى يؤتى «قالتا آتينا » على وزن أفعلنا{[10045]} ، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها .

وقوله : { أو كرهاً } فيه محذوف ومقتضب ، والتقدير : { ائتيا طوعاً } وإلا أتيتما { كرهاً } . وقوله : { قالتا } أراد الفرقتين المذكورتين ، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضاً ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]

ألم يحزنك أن حبال قومي . . . وقومك قد تباينتا انقطاعا{[10046]}

جعلها فرقتين ، وعبر عنها ب { ائتيا } .

وقوله : { طائعين } لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في { طائعين } ذلك المجرى ، وهذا كقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[10047]} ونحوه .

واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض ، فقالت فرقة : نطقت حقيقة ، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكاً يقتضي نطقها . وقالت فرقة : هذا مجاز ، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول { أتينا طائعين } والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر .


[10044]:ضبطه القرطبي بقوله: (بالمد والفتح)، وقال أيضا إنها قراءة عكرمة، ويفهم من الهامش التالي أنهما من: (آتى يؤاتي)، لا من (آتى يؤتي).
[10045]:قال أبو الفتح ابن جني في المحتسب: (ينبغي أن يكون [آتينا] هنا: فاعلنا، كقولك: سارعنا وسابقنا، ولا يكون: أفعلنا، لأن ذلك متعد إلى مفعولين، وفاعلنا متعد إلى مفعول واحد، وحذف الواحد أسهل من حذف الاثنين، لأنه كما قل الحذف كان أمثل من كثرته، ومثل [آتينا] في أنه فاعلنا لا أفعلنا القراءة الأخرى: {وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها}، أي سارعنا بها). والزمخشري من هذا الرأي أيضا، فقد قال: إنها المواتاة وهي الموافقة، فيكون وزن [آتينا]: فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي، قال: ([آتينا] بالمد على فاعلنا، من المواتاة، ومعناه: سارعنا، على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله).
[10046]:البيت للقطامي الشاعر النصراني الذي عاش في العصر الإسلامي، وهو من قصيدة له يمدح زفر بن الحارث الكلاني الذي أطلق سبيله من الأسر، وفي مطلعها يقول: (قفي قبل التفرق يا ضباعا)، وضباعة هذه هي بنت زفر، والبيت في الطبري، والبحر المحيط، وفي الديوان، وفي (شعراء النصرانية في الإسلام)، والرواية في أكثرها: (ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب...) – والحبال: الصلاة والعهود، والشاهد أن الشاعر قال: (تباينتا) بالتثنية مع أن حبال قيس وحبال تغلب جمع، وكان الظاهر يقتضي أن يقول: (تباينت) مراعاة لمعنى الجمعية في الحبال. هذا هو كلام ابن عطية هنا، ولكن أبا حيان يخالفه في البحر المحيط ويقول: (وليس كما ذكر ابن عطية لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال: ألم يحزنك أن حبال قومي وقومك، ولذلك ثنى في قوله: (تباينتا)، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، وإنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قوميهما).
[10047]:من الآية (4) من سورة (يوسف).