فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسماوات فقال : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا ، وتعلقت إرادته بخلقها ، قال الرازي : هو من قولهم ، استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم : استقام إليه ، ومنه قوله تعالى : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماوات بعد خلق الأرض وما فيها قال الحسن : المعنى صعد أمره إلى السماء ، ويفهم من هذه الآية أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس ، وقوله : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء .

والجواب أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط ، بل هو عبارة عن التقدير أيضا ، فالمعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء وعلى هذا يزول الإشكال ، وقال الشوكاني بعد ذكر هذا الاستشكال .

إن ثم ليست للتراخي الزماني{[1463]} فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها ، فهي متقدمة خلقا متأخرة دحوا ، وهذا ظاهر انتهى .

ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم هذا الجمع في سورة البقرة ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد دحوها فالإشكال باق ، وعلى هذا لا يتفضى عن الإشكال إلا بما ذكر في ثم ؛ أو أن بعد بمعنى قبل أو بمعنى مع .

{ وَهِيَ دُخَانٌ } هو ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض ، قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء ، وقياس جمعه في القلة أدخنة ، وفي الكثرة دخان ، وهي من باب التشبيه الصوري لأن صورتها صورة الدخان في رأي العين ، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجها إليها وإلى الأرض ، كما يفيده قوله : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ : اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا } استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها ، ومعنى ائتيا إفعلا ما آمركما به ، وجيئا به ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن أي افعله ، وقيل : المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائتي يا أرض مدحورة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم .

قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه قال : أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك ، قاله ابن عباس ، قرأ الجمهور ائتيا أمرا من الإتيان وقرئ آتيا قالتا آتينا ، بالمد فيهما ، وهو من المؤاتاة وهي الموافقة أي لتوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها ، وإليه ذهب الرازي والزمخشري ، أو من الإيتاء وهو الإعطاء قاله ابن عباس ، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا ، وعلى الثاني أفعلا كأكرما ، وطوعا وكرها مصدران في موضع الحال ، أي طائعتين أو مكرهتين ، وقرئ كرها بالضم .

قال الزجاج : أطيعا طاعة أو تكرهان كرها ، قيل : ومعنى هذا الأمر لهما التسخير والحصول والوقوع أي كونا فكانتا ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أمرنا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعهما أو من باب الاستعارة التخييلية .

{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء ، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان ، بل قد يكون القول لهما متعاقبا ، قال القرطبي : قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه ، وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما ، والأول أولى ، قال أبو نصر السكسي فنطق موضع الكعبة ، ونطق من السماء بحيالها ، فوضع الله فيه حرمة .


[1463]:سقط من الأصل: بل للتراخي الرتبي فيندفع الإشكال من أصله، وعلى تقدير بينها للتراخي الزماني.