ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسماوات فقال : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا ، وتعلقت إرادته بخلقها ، قال الرازي : هو من قولهم ، استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم : استقام إليه ، ومنه قوله تعالى : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماوات بعد خلق الأرض وما فيها قال الحسن : المعنى صعد أمره إلى السماء ، ويفهم من هذه الآية أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس ، وقوله : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء .
والجواب أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط ، بل هو عبارة عن التقدير أيضا ، فالمعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء وعلى هذا يزول الإشكال ، وقال الشوكاني بعد ذكر هذا الاستشكال .
إن ثم ليست للتراخي الزماني{[1463]} فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها ، فهي متقدمة خلقا متأخرة دحوا ، وهذا ظاهر انتهى .
ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم هذا الجمع في سورة البقرة ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد دحوها فالإشكال باق ، وعلى هذا لا يتفضى عن الإشكال إلا بما ذكر في ثم ؛ أو أن بعد بمعنى قبل أو بمعنى مع .
{ وَهِيَ دُخَانٌ } هو ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض ، قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء ، وقياس جمعه في القلة أدخنة ، وفي الكثرة دخان ، وهي من باب التشبيه الصوري لأن صورتها صورة الدخان في رأي العين ، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجها إليها وإلى الأرض ، كما يفيده قوله : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ : اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا } استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها ، ومعنى ائتيا إفعلا ما آمركما به ، وجيئا به ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن أي افعله ، وقيل : المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائتي يا أرض مدحورة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم .
قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه قال : أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك ، قاله ابن عباس ، قرأ الجمهور ائتيا أمرا من الإتيان وقرئ آتيا قالتا آتينا ، بالمد فيهما ، وهو من المؤاتاة وهي الموافقة أي لتوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها ، وإليه ذهب الرازي والزمخشري ، أو من الإيتاء وهو الإعطاء قاله ابن عباس ، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا ، وعلى الثاني أفعلا كأكرما ، وطوعا وكرها مصدران في موضع الحال ، أي طائعتين أو مكرهتين ، وقرئ كرها بالضم .
قال الزجاج : أطيعا طاعة أو تكرهان كرها ، قيل : ومعنى هذا الأمر لهما التسخير والحصول والوقوع أي كونا فكانتا ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أمرنا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعهما أو من باب الاستعارة التخييلية .
{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء ، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان ، بل قد يكون القول لهما متعاقبا ، قال القرطبي : قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه ، وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما ، والأول أولى ، قال أبو نصر السكسي فنطق موضع الكعبة ، ونطق من السماء بحيالها ، فوضع الله فيه حرمة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.