السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها باتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظم الغاية فقال تعالى : { ثم استوى } أي : قصد قصداً ، هو القصد منتهياً قصده { إلى السماء وهي } أي : والحال أنها { دخان } قال المفسرون : هذا الدخان بخار الماء وذلك أن عرش الرحمان كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى : { وكان عرشه على الماء } ( هود : 7 ) ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزبد وارتفع فخرج منه دخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السماوات ، فإن قيل : هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السماوات وقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } ( النازعات : 30 ) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماوات وذلك يوجب التناقض ؟ .

أجيب : بأن المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق بعدها السماوات ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها حينئذ فلا تناقض ، قال الرازي : وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثم استوى إلى السماء فهذا يقتضي أن الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال ثم قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتأويل الآية أن يقال الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد والدليل عليه قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( آل عمران : 59 ) فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال ، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين بل عبارة عن التقدير ، والتقدير في حق الله تعالى هو : كلمته بأن سيوجده ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : { خلق الأرض في يومين } : معناه : أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاء الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء حينئذ يزول السؤال . { فقال لها } أي : السماء عقب الاستواء { وللأرض ائتيا } أي : تعاليا وأقبلا منقادتين وقوله تعالى : { طوعاً أو كرهاً } مصدران في موضع الحال أي : طائعتين أو كارهتين { قالتا أتينا } أي : نحن وما فينا وما بيننا { طائعين } أي : أتينا على الطوع لا على الكره ، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يحقق شيئاً من الخطاب والجواب ، ونحو ذلك قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد سل من يدقني ، فإن قيل : هلا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سماوات وأرضون ؟ أجيب : بأنه لما جعلهن مخاطبات ومجيبات ووصفهن بالطوع والكره قال : طائعين في موضع طائعات نحو قوله ساجدين .

تنبيه : جمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان بل قد يكون القول لهما متعاقباً ، فإن قيل : إن الله تعالى أمر السماء والأرض فأطاعتا كما أن الله تعالى أنطق الجبال مع داود عليه السلام فقال تعالى : { يا جبال أوّبي معه والطير } ( سبأ : 10 ) وأنطق الأيدي والأرجل فقال تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } ( النور : 24 ) وقوله تعالى : { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } ( فصلت : 21 ) وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله تعالى في ذات السماوات والأرض حياة وعقلاً ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ؟ .

ووجه هذا بوجوه ؛ الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا أن يمنع منه مانع وههنا لا مانع ، الثاني : أنه تعالى جمعها جمع العقلاء فقال تعالى : { قالتا آتينا طائعين } الثالث : قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } ( الأحزاب : 72 ) وهذا يدل على كونها عارفة بالله تعالى عالمة بتوجه تكليف الله تعالى ، وأجاب الرازي عن هذا : بأن المراد من قوله تعالى : { ائتيا طوعاً أو كرهاً } الاتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير ، فحال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لم يجز ، فثبت أن حال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن عارفة ولا فاهمة للخطاب فلم يجز توجه الأمر إليها .

فإن قيل : روى مجاهد وطاوس عن ابن عباس أنه قال : قال الله للسماوات والأرض : أخرجا ما فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك وقال لهما : افعلا ما أمرتكما طوعاً وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه ، وعلى هذا لا يكون المراد من قوله { أتينا طائعين } حدوثهما في ذاتهما . بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهر ما كان مودعاً فيهما ؟ أجيب : بأن هذا لم يثبت لأنه تعالى قال : { فقضاهن سبع سماوات } .