محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } .

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } أي قصد إلى إيجادها . و ( ثم ) للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه ، واختلافهما في الجهة والجوهر ، لا للتراخي في الزمان ، إذ لا زمان هناك . قاله القشانيّ .

وقال ابن جرير : {[6411]} أي ثم ارتفع إلى السماء ، أي بلا تكييف ولا تمثيل { وهي دخان } قال القاشاني : أي جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية . وقال القاضي : { دخان } أمر ظلمانيّ . ولعله أراد به مادتها . أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها . وأوصله للرازيّ حيث قال : لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء ، كانت مظلمة عديمة النور ، ثم لما ركبها وجعلها سماوات وكواكب وشمسا وقمرا ، وأحدث صفة / الضوء فيها ، فحينئذ صارت مستنيرة . فثبت أن تلك الأجزاء ، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس والقمر ، كانت مظلمة . فصح تسميتها بالدخان . لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة ، غير متواصلة ، عديمة النور . ثم قال : فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان . والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى .

وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية { وهي دخان } : أي ذرات ، أي غازات أي سديم . ثم تجاذبت كما يتجمع السحاب فصارت كتلة واحدة . مصداقا لقوله تعالى : {[6412]} { أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا } أي كتلة واحدة . فدارت ثم تقطعت وتفصلت بالقوة الدافعة ، فتكونت الأرض والسماوات ، تصديقا لقوله تعالى { ففتقناهما } أي فصلناهما ، فصارتا كرات من الماء في يومين . أي ألفي سنة . لقوله تعالى{[6413]} { و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء . أي كان ملكه وسلطانه على الماء ، والله أعلم . انتهى والله أعلم { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } قال القاشانيّ : أي تعلق أمره وإرادته بإيجادهما ، فوجدتا في الحال معا . كالمأمور المطيع ، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله . وهو من باب التمثيل . إذ لا قول ثمة . انتهى .

وقال ابن جرير {[6414]} : أي قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما . أما أنت يا سماء ، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم . وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات . وتشققي عن الأنهار { قالتا أتينا طائعين } أي جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك ، لا نعصي أمرك . انتهى . يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز . إما بالاستعارة المكنية كما تقول ( نطقت / الحال ) فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة ، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به ، وينسب إليه . وأما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما ، في إرادة تكوينهما وإيجادهما ، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه ، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد . وقد ردّ غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزا ونطقا على ظاهر أمثال هذه النصوص . منهم ابن حزم . قال في ( الفِصَل ) : وأما قوله تعالى { قالتا أتينا طائعين } فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن ، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس ، بهواء يصل إلى آذان السامع ، فيفهم به مرادات القائل . فإذ لا شك في هذا ، فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق ، فلا يكون منه القول المعهود منا . هذا مما لا يشك فيه ذو عقل . فإذا هذا هكذا كما قلنا بالعيان ، فكل قول ورد به نصّ ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته ، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا . لكنه معنى آخر . فإذا هذا كما ذكرنا ، فبالضرورة صحّ أن معنى قوله تعالى : { أتينا طائعين } إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل فيهما وتصريفه لهما . انتهى .

وكذا الحال في { ائتيا طوعا أو كرها } فإنهما لما نزلا - وهما من الجمادات - منزلة العقلاء ، إذ أمرا وخوطبا على طريق المكنية أو التمثيلية ، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحا . وهما مؤولان ب ( طائع وكاره ) لأن المصدر لا يقع حالا بدون ذلك ، ويجوز كونهما مفعولا مطلقا . وإنما قال { طائعين } بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور . وكان مقتضى الظاهر ( طائعات ) أو ( طائعتين ) نظرا إلى الخطاب والإجابة والوصف بالطوع والكره .


[6411]:انظر الصفحة رقم 98 من الجزء الرابع والعشرين (طبعة الحلبي الثانية).
[6412]:[21 / الأنبياء / 30].
[6413]:[22 / الحج / 47].
[6414]:انظر الصفحة رقم 98 من الجزء الرابع والعشرين (طبعة الحلبي الثانية).