الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " أي عمد إلى خلقها وقصد لتسويتها . والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال ، يدل عليه قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " [ البقرة : 29 ] وقد مضى القول هناك{[13418]} . وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء ، وقال الحسن . ومن قال : إنه صفة ذاتية زائدة قال : استوى في الأزل بصفاته . و " ثم " ترجع إلى نقل السماء من صفة الدخان إلى حالة الكثافة . وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، على ما مضى في " البقرة " عن ابن مسعود وغيره . " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي . قال ابن عباس : قال الله تعالى للسماء : أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجري رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شقي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين " قالتا أتينا طائعين " في الكلام حذف أي أتينا أمرك " طائعين " . وقيل : معنى هذا الأمر التسخير ، أي كونا فكانتا كما قال تعالى : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " [ النحل : 40 ] فعلى هذا قال ذلك قبل خلقهما . وعلى القول الأول قال ذلك بعد خلقهما . وهو قول الجمهور . وفي قوله تعالى لهما وجهان : أحدهما أنه قول تكلم به . الثاني أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد ، ذكره الماوردي . " قالتا أتينا طائعين " فيه أيضا وجهان : أحدهما أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما ، ومنه قول الراجز :

امتلأ الحوضُ وقال قَطْنِي *** مَهْلاً رويداً قد ملأتُ بَطْنِي

يعني ظهر ذلك فيه . وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى : قال أبو نصر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ، ونطق من السماء ما بحيالها ، فوضع الله تعالى فيه حرمه . وقال : " طائعين " ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى ؛ لأنهما سموات وأرضون ؛ لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما ، وقيل : لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل ، ومثله : " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف : 4 ] وقد تقدم{[13419]} . وفي حديث : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب لو أن السموات والأرض حين قلت لهما " ائتيا طوعا أو كرها " عصياك ما كنت صانعا بهما ؟ قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما . قال : يا رب وأين تلك الدابة ؟ قال : في مرج من مروجي . قال : يا رب وأين ذلك المرج ؟ قال : علم من علمي . ذكره الثعلبي . وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة " آتيا " بالمد والفتح . وكذلك قوله : " آتينا طائعين " على معنى أعطيا الطاعة من أنفسكما " قالتا " أعطينا " طائعين " فحذف المفعولين جميعا . ويجوز وهو أحسن أن يكون " آتينا " فاعلنا فحذف مفعول واحد . ومن قرأ " آتينا " فالمعنى جئنا بما فينا ، على ما تقدم بيانه في غير ما موضع والحمد لله .


[13418]:راجع ج 11 ص 254 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة.
[13419]:راجع ج 7 ص 3444 و ج 9 ص 122 طبعة أولى أو ثانية.