إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

وقوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } شروعٌ في بيان كيفيةِ التكوينِ إثرَ كيفيةِ التقديرِ ، ولعلَّ تخصيصَ البيانِ بما يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بيان اعتنائِه تعالى بأمر المخاطبين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم على الإيمان ويزجُرهم عن الكفر والطغيانِ أي ثم قصدَ نحوهَا قصداً سوياً لا يلوِي على غيرِه { وَهِيَ دُخَانٌ } أي أمرٌ ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما معاً حسبما ينطقُ به قولُه تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ } اكتفاءً بذكر تقديرِ ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدرَ وجودَ ما فيها : { ائتيا } أي كُونا واحدُثا على وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ أمرِهما من غير أن يكونَ هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى كُنْ وقولُه تعالى : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ قدرتِه تعالى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ ، أي طائعتينِ أو كارهتينِ . وقولُه تعالى : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانيةِ وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصويرٌ لكونِ وجودِهما كما هما عليه جارياً على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ ، فإن الطوعَ منبئ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى : { ساجدين } [ سورة يوسف ، الآية4 وسورة الحجر ، الآية29 وسورة الشعراء ، الآية46 وسورة ص ، الآية72 ] .