الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

{ ثُمَّ استوى إِلَى السماء } من قولك : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على شيء ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونحوه قولهم : استقام إليه وامتد إليه . ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إِلَيْهِ } [ فصلت : 6 ] والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك . قيل : كان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع .

ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما : أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الأمر المطاع ، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل . ويجوز أن يكون تخييلاً ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه ، فقالتا : أتينا على الطوع لا على الكره . والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ؛ من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب . ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فلم يتركني ، ورائي الحجر الذي ورائي .

فإن قلت : لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوّة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف : ائتي يا أرض مدحوّة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم . ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما تقول : أتى عمله مرضياً ، وجاء مقبولاً . ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير : من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض . وتنصره قراءة من قرأ : «آتيا » وآتينا : من المؤاتاة وهي الموافقة : أي : لتؤات كل واحدة أختها ولتوافقها . قالتا : واقفنا وساعدنا . ويحتمل وافقاً أمري ومشيئتي ولا تمتنعا .

فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً ؟ قلت : هو مثل للزوم وتأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ؛ كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً . وانتصابهما على الحال ، بمعنى : طائعتين أو مكرهتين .

فإن قلت : هلا قيل : طائعتين على اللفظ ؟ أو طائعات على المعنى ؟ لأنها سموات وأرضون . قلت : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ، ووصفن بالطوع والكره قيل : طائعين ، في موضع : طائعات . نحو قوله : ( ساجدين ) .