غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

1

قوله { ثم استوى إلى السماء } أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول " البقرة " . قوله { وهي دخان } ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السماوات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السماوات . وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور . واعلم أن ظاهر قوله { ثم استوى } يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر . وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى { إن يسرق فقد } [ يوسف : 77 ] أي إن يكن يسرق . وزيف بأن الجمع بين " ثم " الدال على التأخر وبين إضمار " كان " الدال على التقدم جمع بين النقيضين . ويمكن أن يجاب بأن " ثم " هاهنا لترتيب الأخبار . وقال الإمام فخر الدين الرازي : المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران :59 ] فإن إيجاد الموجود محال . فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا . قلت : لو لم يكن قوله تعالى { وجعل فيها رواسي من فوقها } إلى قوله { أربعة أيام } لكان هذا التأويل له وجه . وقال بعض الصوفية : خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطواراً سبعة كقوله { وقد خلقكم أطواراً } [ نوح : 15 ] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] ثم الحكمة " ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه " ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام الرباني . قوله { فقال لها وللأرض ائتيا } الآية .

للمفسرين فيه قولان : الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال { طائعين } على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء . ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع . ومن هؤلاء من قال : نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض . وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا : معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا : جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك . ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال : أتى عمله مرضياً . ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قراراً والسماء سقفاً لها . وقوله { طوعاً أو كرهاً } إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين . والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم . وقال بعضهم : الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف . وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره . قلت : لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما .

/خ24