قوله { ثم استوى إلى السماء } أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول " البقرة " . قوله { وهي دخان } ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السماوات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السماوات . وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور . واعلم أن ظاهر قوله { ثم استوى } يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر . وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى { إن يسرق فقد } [ يوسف : 77 ] أي إن يكن يسرق . وزيف بأن الجمع بين " ثم " الدال على التأخر وبين إضمار " كان " الدال على التقدم جمع بين النقيضين . ويمكن أن يجاب بأن " ثم " هاهنا لترتيب الأخبار . وقال الإمام فخر الدين الرازي : المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران :59 ] فإن إيجاد الموجود محال . فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا . قلت : لو لم يكن قوله تعالى { وجعل فيها رواسي من فوقها } إلى قوله { أربعة أيام } لكان هذا التأويل له وجه . وقال بعض الصوفية : خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطواراً سبعة كقوله { وقد خلقكم أطواراً } [ نوح : 15 ] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] ثم الحكمة " ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه " ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام الرباني . قوله { فقال لها وللأرض ائتيا } الآية .
للمفسرين فيه قولان : الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال { طائعين } على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء . ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع . ومن هؤلاء من قال : نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض . وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا : معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا : جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك . ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال : أتى عمله مرضياً . ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قراراً والسماء سقفاً لها . وقوله { طوعاً أو كرهاً } إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين . والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم . وقال بعضهم : الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف . وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره . قلت : لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.