البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

ولما شرح تخليق الأرض وما فيها ، أتبعه بتخليق السماء فقال : { ثم استوى إلى السماء } : أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها ، والمعنى : إلى خلق السماء .

والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً .

وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، فأحدث الله في ذلك سخونة ، فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء ، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السموات .

وفيه أيضاً أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة . انتهى .

وروي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار .

قال ابن عطية : هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها ، وحينئذ { قال لها وللأرض ائتيا } .

انتهى ، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء ، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً ، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما ، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز ، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول ، قال : والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة فيه أتم ، والقدرة فيه أظهر . انتهى .

وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع ، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه .

على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : { ائتيا } ، شئتما ذلك أو أبيتما ، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره .

والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : سل من يدقني ، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي .

فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال : { والأرض بعد ذلك دحاها } فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم .

ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما يقول : أتى عمله مرضياً مقبولاً .

ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة ، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض ، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة ، وهي الموافقة ، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها ، قالتا : وافقنا وساعدنا .

ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا .

فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً ؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً .

وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين .

فإن قلت : هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون ؟ قلت : لما جعلت مخاطبات ومجيبات ، ووصفت بالطوع والكره ، قيل : طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ساجدين .

انتهى .

وقرأ الجمهور : ائتيا من الإتيان ، أي ائتيا أمري وإرادتي .

وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : أتيا على وزن فعلا ، قالتا : أتينا على وزن فعلنا ، من آتى يؤتى ، كذا قال ابن عطية ، قال : وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها . انتهى .

وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة ، وهي الموافقة ، فيكون وزن آتيا : فاعلاً ، وآتينا : فاعلنا ، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال : آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة ، ومعناه : سارعنا على حذف المفعول منه ، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله . انتهى .

وقرأ الأعمش : أو كرهاً بضم الكاف ، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية ، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة .

قال ابن عطية : وقوله قالتا ، أراد الفرقتين المذكورتين : جعل السموات سماء ، والأرضين أرضاً ، وهذا نحو قول الشاعر :

ألم يحزنك أن حبال قومي *** وقومك قد تباينتا انقطاعاً

وعبر عنها بتباينتا . انتهى .

هذا وليس كما ذكر ، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية ، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية ، كأنه قال : ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك ؟ ولذلك ثنى في قوله : تباينتا ، وأنث على معنى الحبل ، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة ، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما .

والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها ، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات ، فيكون خلق الأرض متقدماً على خلق السماء ، ودحو الأرض غير خلقها ، وقد تأخر عن خلق السماء ، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة .

وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة .

وقوله : { وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة .

ثم قال بعد : { ثم استوى إلى السماء } ، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها .

وأورد أيضاً أن قوله تعالى للسماء وللأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً } ، كناية عن إيجادهما ، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد ، وهو محال ، وقد انتهى هذا الإيراد .

ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان ، كما قال تعالى : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } معناه : إن يكن سرق . انتهى .

وقال أبو عبد الله الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين ، لأن ثم تقتضي التأخر ، وكان تقتضي التقدم ، فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره : ضربت زيداً اليوم ، ثم ضربت عمراً أمس .

فكما أن هذا باطل ، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى ، قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض .

وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين ، والإيجاد يدل عليه قوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وهذا محال ، لا يقال للشيء الذي وجد كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء . انتهى .

والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني ، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان ، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب ، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له .

ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض ، ألف الأخبار فيه بثم ، فصار كقوله : { ثم كان من الذين آمنوا } بعد قوله : { فلا اقتحم العقبة } ومن ترتيب الأخبار { ثم آتينا موسى الكتاب } بعد قوله : { قل تعالوا أتل } ويكون قوله تعالى : { فقال لها وللأرض } ، بعد إخباره بما أخبر به ، تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى ، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح ؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له .

فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت ، فحد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته .

ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } الآية ، ثم قال بعد : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً } الآية .

وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي ، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها ، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني ، وما جاء من ذلك مقصوراً على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم ، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان .