المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (71)

المعنى في هذه الآية : وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم ، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم »{[4631]} .

وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } قالت جماعة من المفسرين : هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً ، وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم ، وقالت جماعة : توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا العمى{[4632]} كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن ، ثم توعدهم بقوله تعالى : { والله بصير بما يعملون } .

وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكونَ » بنصب النون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكونُ » برفع النون ، ولم يختلفوا في رفع { فتنةٌ } لأن «كان » هنا هي التامة ، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن » هي الخفيفة الناصبة ، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة ، وحسن دخولها لأن «لا » قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضاً منه ، ولا بد في مثل هذا من عوض{[4633]} ، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد ، وقوله عز وجل { علم أن سيكون منكم مرضى }{[4634]} وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة ، وقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[4635]} حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ( ليس ) بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب : ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن » الثقيلة التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع ، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع ، فهذا الضرب تليه «أنْ » الخفيفة إذ هي تناسبه ، كقوله تعالى ، { والذي أطمع أن يغفر لي }{[4636]} { وتخافون أن يتخطفكم الناس }{[4637]} { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }{[4638]} و { فخشينا أن يرهقهما طغياناً }{[4639]} و{ أأشفقتم أن تقدموا }{[4640]} ونحو هذا ، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع ، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة ، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله ، كقوله تعالى : { والذين يظنون أنهم ملاقو ربهم }{[4641]} وقوله { إني ظننت أني ملاق حسابيه }{[4642]} وقرأ جمهور الناس «عَموا وصَموا » بفتح العين والصاد ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عُموا وصُموا » بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله ، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله ، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره ، وصم وأصمه غيره ، ولا يقال عميته ولا صممته{[4643]} .

وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } أي رجع بهم إلى الطاعة والحق ، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى ، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم ، وقوله تعالى { كثير } يرتفع من إحدى ثلاث جهات ، إما على البدل من الواو في قوله { عموا وصموا } وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وإما على أن يكون { كثير } خبر ابتداء مضمر{[4644]} .


[4631]:- رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في تاريخه، وأبو داود- عن أبي الدرداء في اعتلال القلوب عن أبي برزة بن عساكر، عن عبد الله بن أنيس- ورمز له في الجامع الصغير بأنه حديث حسن.
[4632]:- جاء في بعض النسخ: وخص بهذا المعنى، وما أثبتناه عن بقية النسخ أقرب إلى الصواب لأنه المناسب لقوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم}.
[4633]:-زيادة على ما أشار إليه ابن عطية من وجود العوض فإنهم نزّلوا (حسب) منزلة (علم) لأنها استعملت في المتيقن قليلا- كما أشار هو بعد ذلك- قال الشاعر: حسبت التُّقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا ومثل (حسب) في ذلك (زعم) قال الشاعر: ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي.
[4634]:- من الآية (20) من سورة (المزمل).
[4635]:- الآية (39) من سورة (النجم).
[4636]:- من قوله تعالى في الآية (82) من سورة (الشعراء): {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
[4637]:- من الآية (26) من سورة (الأنفال) {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس}.
[4638]:- من الآية (229) من سورة (البقرة) {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}.
[4639]:- من الآية (80) من سورة (الكهف).
[4640]:- من قوله تعالى في الآية (13) من سورة (المجادلة): {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة}
[4641]:- من الآية (46) من سورة (البقرة).
[4642]:- الآية (10) من سورة (الحاقة).
[4643]:- قال في "البحر المحيط" عن "زكم وحمّ" وأمثالهما: "وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي متعدية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة النقل، وهي نوع غريب في الأفعال". أما الزمخشري فيقول: "وعموا وصموا بالضم على تقدير" عماهم الله وصمهم، أي: رماهم بالعمى والصمم، كما يقال: تركته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك". اهـ.
[4644]:- ذكر ثلاثة أوجه في إعراب [كثير] الأول: البدل من الواو- قال الأخفش سعيد: كما تقول: "رأيت قومك ثلثيهم"، الثاني: أن تكون على لغة من يجمع الفعل- أي اللغة المشهورة بلغة أكلوني البراغيث، قال القرطبي: وعليه قول الشاعر- وهو الفرزدق: ولكن ديافي أبوه وأمه بَحْوران يعصرن السليط أقاربه ودياف: قرية بالشام أو بالجزيرة، والسليط: الزيت- والبيت في هجاء عمرو بن عفراء. وعليه قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا}. الثالث: أن تكون [كثير] خبر مبتدأ مضمر تقديره: العمي والصم كثير منهم، ثم قال القرطبي: ويجوز في غير القرآن (كثيرا) بالنصب، ويكون نعتا لمصدر محذوف.