المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ الذين تبوءوا } هم الأنصار ، والضمير في { قبلهم } للمهاجرين ، و { الدار } هي المدينة ، والمعنى : تبوءوا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : { من قبلهم } فتأمله ، { والإيمان } لا يتبوأ لأنه ليس مكاناً ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن{[11024]} .

وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم { يحبون } المهاجرين ، وبأنهم { يؤثرون على أنفسهم } وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله : { ومن يوق شح نفسه } الآية . أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح ، والحاجة : الحسد في هذا الموضع ، قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى ، و { أوتوا } معناه : أعطوا ، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين ، وقوله تعالى : { ويؤثرون } الآية ، صفة للأنصار . وقد روي من غير ما طريق ، أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار ، قال أبو المتوكل : هو ثابت بن قيس ، وقال أبي هريرة في كتاب مكي : كنية هذا الرجل أبو طلحة ، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما عندنا إلا قوت الصبية ، فقال : نومي صبيتك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل ، ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «عجب الله من فعلكما البارحة » ، ونزلت الآية في ذلك{[11025]} . والإيثار على النفس أكرم خلق ، وقال حذيفة العدوي : طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء ، فوجدته ، فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فإذا رجل يصيح آه ، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي ، فقلت : اشرب فإذا آخر يقول : آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئته ، فإذا به قد فاضت نفسه ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات ، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي : قدم علينا شاب من بلخ حاجاً فقال : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ ، فقلت له : فما هو عندكم ، فقال : إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي : أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه » فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت هذه الآية{[11026]} .

والخصاصة : الفاقة والحاجة ، وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج ، و «شح النفس » هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح »{[11027]} ، واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا ، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل ، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقيل له في ذلك فقال إذا وقيته لم أفعل سوءاً .

قال القاضي أبو محمد : «شح النفس » فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به ، وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس . وقال ابن مسعود رحمه الله «شح النفس » : هو أكل مال الغير بالباطل ، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح ، ولكنه ليس بالشح . وقرأ عبد الله بن عمر : «شِح » بكسر السين ، ويوقى وزنه : يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن . وقرأ أبو حيوة : «يوَقّ » بفتح الواو وشد القاف و { المفلحون } : الفائزون ببغيتهم .


[11024]:قيل: إنه نصب بفعل آخر غير "تبوأ"، والتقدير: والذين تبوؤوا الدار واعتقدوا الإيمان، فهو كقوله تعالى:{فأجمعوا أمركم وشركاءكم}، ويكون من باب:"علفتها تبنا وماء باردا"، أي: وسقيتها ماء، ذكر ذلك أبو علي والزمخشري، وقيل: هو من باب حذف المضاف، والتقدير: تبوءوا الدار ومواضع الإيمان، وقيل: هو على طريق المثل، كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم.
[11025]:أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال: ألا رجل يضيف هذا لليلة رحمه الله تعالى؟ فقال رجل من الأنصار-وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، الحديث كما ذكره ابن عطية.
[11026]:ذكره الزمخشري في تفسيره دون سند، وذكره القرطبي قائلا: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن إسحق في السيرة طرفا منه جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين الأولين إلا أنه أعطى سهل بن حُنيف وأبا دُجانة سِماك بن خراشة، وهذا يتفق مع ما ذكره الزمخشري، لكن الزمخشري ذكر أيضا أنه أعطى معهما الحرث بن الصمة.
[11027]:أخرجه عبد بن حميد، عن مجمع بن يحيى بن جارية، قال: حدثني عمي خالد بن يزيد بن جارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأدى في النائبة). (الدر المنثور)ن وزاد في الجامع الصغير نسبته إلى أبي يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير، ثم رمز له الإمام السيوطي بأنه حديث حسن.