البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

والظاهر أن قوله : { والذين تبوؤا } معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال .

وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر { يحبون } .

أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أنثى على المهاجرين بقوله : { يبتغون فضلاً } الخ ، والإيمان معطوف على الدار ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ .

فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو عليّ ، فيكون كقوله :

علفتها تبناً وماء بارداً . . .

أو يكون ضمن { تبوؤا } معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف .

أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز .

قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه ؛ أو سمى المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان .

وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : { من قبلهم } فتأمله . انتهى .

ومعنى { من قبلهم } : من قبل هجرتهم ، { حاجة } : أي حسداً ، { مما أوتوا } : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى .

{ ويؤثرون على أنفسهم } : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : « عجب الله من فعلكما البارحة » ، فالآية مشيرة إلى ذلك .

وروي غير ذلك في إيثارهم .

والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج : والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج .

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : شح بكسر الشين .

والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع .

قال الشاعر :

يمارس نفساً بين جنبيه كزة *** إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً

وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها .

وقال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } وفي الحديث : « من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح »