فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

عن سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك خمسمائة سنة } أخرجه أبو داود ثم لما فرغ من مدحهم مدح الأنصار بخصال حميدة فقال :

{ والذين تبوأوا الدار والإيمان } وهو كلام مستأنف ، والمراد بالدار المدينة ، وهي دار الهجرة ومعنى تبوّئهم أنهم اتخذوها مباءة أي تمكنوا منهما تمكنا شديدا والتبوؤ في الأصل إنما يكون للمكان ، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلا للحال منزلة المحل ، وقيل : التقدير واعتقدوا الإيمان أو أخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي أو تبوأوا الدار وموضع الإيمان ، ويجوز أن يكون تبوّأوا مضمنا معنى لزموا ، أي لزموا الدار والإيمان ، ومعنى { من قبلهم } أسلموا في ديارهم ، وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل هجرة المهاجرين ، وقبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ، فلا بد من تقدير مضاف ، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين ، وقيل : من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوّىء الدار .

وقد أخرج البخاري .

" عن عمر بن الخطاب أنه قال : أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم " ( {[1570]} ) .

{ يحبون من هاجر إليهم } وذلك أنهم أحسنوا إلى المهاجرين ، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم ، { ولا يجدون } أي لا يجد الأنصار { في صدورهم حاجة } أي حسدا وغيظا وحزازة فالمراد بالحاجة هذه المعاني ، وإطلاق لفظ الحاجة عليها من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية ، لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالبا ، وفي الكلام مضاف محذوف ، أي : لا يجدون في صدورهم من حاجة أو أثر حاجة ، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة .

{ مما أوتوا } أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم بذلك ، وكان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين ، من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال : إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم ، والمشاركة لكم في أموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم ذلك ، وخرجوا من دياركم ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين ، وطابت أنفسهم .

{ ويؤثرون على أنفسهم } أي في كل شيء من أسباب المعاش ، والإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا ، رغبة في حظوظ الآخرة ، وذلك ينشأ عن قوة اليقين ، وكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا أي خصصته به وفضلته ، والمعنى ويقدمون المهاجرون على أنفسهم في حظوظ الدنيا ، { ولو كان بهم خصاصة } أي حاجة وفقر ، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفروج التي تكون فيه وقيل : مأخوذة من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة الإنفراد بالحاجة .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما :

" عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال : ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ فقال رجل من الأنصار ، وفي رواية : فقال أبو طلحة الأنصاري : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا ، قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيها " هذه الآية " ( {[1571]} ) .

وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب :

عن " ابن عمر قال أَهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت فيهم هذه الآية .

{ ومن يوق شح نفسه } قرأ الجمهور يوق بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية ، وقرئ بفتح الواو وتشديد القاف ، وقرأوا شح بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، وهذا كلام عام ، ( ومن ) شرطية ، ويوق فعل الشرط والشح البخل مع الحرص كذا في الصحاح ، وقيل : الشح أشد من البخل ، قال مقاتل : شح نفسه حرص نفسه . قال سعيد بن جبير : شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقي شح نفسه ، قال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده والشح أن يشح بما في أيدي الناس يُحبُّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام ؛ لا يقنع . وقال ابن عيينة : الشح الظلم وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم .

{ فأولئك هم المفلحون } جزاء الشرط المتقدم ، وفيه رعاية معنى من بعد رعاية لفظها ، والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب ، أي الفائزون بما أرادوا والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعا ، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك ، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس ، عن ابن مسعود أن رجلا قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : إني سمعت الله يقول { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء ، فقال له ابن مسعود : ليس ذلك بالشح ، ولكنه البخل ، ولا خير في البخل ، وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما .

وعن ابن عمر في الآية قال : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، ولكنه البخل وإنه لشر ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له ، وعن علي ابن أبي طالب قال : من أذى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه .

" وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " أخرجه أبو يعلى وابن مردويه ، وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي :

" عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " ( {[1572]} ) .

" عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا " . رواه النسائي ، وفي الجامع الصغير :

" الشحيح لا يدخل الجنة " رواه الخطيب في كتاب البخلاء عن ابن عمر ، وقد وردت أحاديث في ذم الشح كثيرة .


[1570]:رواه البخاري.
[1571]:رواه البخاري.
[1572]:مسلم.