الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ والذين تَبَوَّءُوا الدار } : هم الأنصار رضي اللَّه عن جميعهم ، والضمير في { مِن قَبْلِهِمُ } للمهاجرين ، و{ الدار } هي المدينة ، والمعنى : تبوؤوا الدار مع الإيمان ، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى : { مِن قَبْلِهِمْ } فتأمله ، قال ( ص ) : { والإيمان } منصوب بفعل مُقَدَّرٍ ، أي : واعتقدوا الإيمان ، فهو من عطف الجمل ؛ كقوله :

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ***

انتهى . وقيل غير هذا ، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين ، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم ، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم .

( ت ) : وروى الترمذيُّ عن أنس قال : " لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؛ لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى ، و( الحاجة ) : الحسد في هذا الموضع ؛ قاله الحسن ، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً ، وقال الثعلبيُّ : { حَاجَةً } أي : حَزَازَةً ، وقيل : حسداً { مِّمَّا أُوتُواْ } أي : مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } : صفة للأنصار ، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق ، " أَنَّها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ نَوَّمَ صبيانه ، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه ، وأطفأتْ أهلُه السراجَ ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه ، وباتا طاويين ؛ فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له : «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ » " ونزلت الآية في ذلك ، قال صاحب «سلاح المؤمن » : الرجل الأنصاريُّ الذي أضاف هو ، أبو طلحة انتهى ، قال الترمذيُّ الحكيم في كتاب «ختم الأولياء » له : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد اللَّه بن عاصم : حدثنا الجمانيُّ : حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ ؛ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ ، وَحُسْنِ الخُلُقِ ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ " انتهى ، والإيثار على النفس أكرم خلق ، قال أبو يزيد البسطاميُّ : " قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي : ما حَدُّ الزهد عندكم ؟ فقلت : إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا ، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا " ، فقال : " هكذا عندنا كلابُ بلخ ! فقلت له : فما هو عندكم ؟ ! فقال : إذا فقدنا صَبْرَنَا ، وَإذَا وجدنا آثرنا " ، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآيةِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، لَمَّا فَتَحَ هذه الْقُرَى قَالَ لِلاٌّنْصَارِ : «إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكْمْ وَدِيَارِكُمْ ؛ وَشَارَكْتُمُوهُمْ في هذه الْغَنِيمَةِ ، وَإنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وَتَرَكْتُمْ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ ، فَقَالُوا : بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا ، وَنَتْرُكُ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ » ، فنزلت الآية ، و( الخصاصة ) : الفاقَةُ والحاجةُ ، و( شُحُّ النفس ) : هو كثرةَ طَمَعِهَا . وضبطها على المال ، والرغبةُ فيه ، وامتدادُ الأمل ؛ هذا جماع شُحِّ النفس . وهو داعية كُلِّ خلق سوء ، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَقَرَى الضَّيْفَ ، وَأَعْطَى في النَّائِبَةِ فَقَدْ بَرِئ من الشُّحِّ » ، وَإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام ، وقيل في الشح غير هذا ، قال ( ع ) : وشُحُّ النفس فَقْرٌ لا يذهبه غِنَى المالِ ، بل يزيده ، وينصب به ؛ و{ يُوقَ } مِنْ وقى يَقِي ، وقال الفخر : اعلم أَنَّ الفرق بين الشُّحِّ والبخل هو أَنَّ البخل نفس المنع ، والشُّحُّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المَنْعَ ، ولَمَّا كان الشُّحُّ من صفات النفس لا جَرَمَ ، قال اللَّه تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } أي : الظافرون بما أرادوا ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه اللَّه عن أخذه ، ولم يمنع شيئاً أمره اللَّه تعالى بإعطائه فقد وُقِيَ شُحَّ نفسه ، انتهى .