التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم والضمير في قبلهم للمهاجرين ، فإن قيل : كيف قال تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان وإنما تتبوأ الدار أي : تسكن ولا يتبوأ الإيمان ؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك : فعلفتها تبنا وماء باردا : تقديره : علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا .

الثاني : أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كله موطن لهم لتمكنهم فيه كما جعلوا المدينة كذلك .

فإن قيل : قوله : { من قبلهم } يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان ، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم ، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل ، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار . فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بقوله : { من قبلهم } من قبل هجرتهم .

والآخر : أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معا أي : جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين ، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولا معه ، وهذا الوجه أحسن لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول ، فإنه إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول ، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفا على الدار .

{ ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا } قيل : إن الحاجة هنا بمعنى الحسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها والضمير في يجدون للأنصار ، وفي أوتوا للمهاجرين ، والمعنى : أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره ، ولا يجدون في صدورهم شيئا بسبب ذلك .

{ ويؤثرون على أنفسهم } أي : يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج والخصاصة هي الفاقة ، وروي : أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه " فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، وروي أيضا : أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته : والله ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال لها : نومي صبيانك وأطفئي السراج ، وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : عجب الله من فعلكما البارحة نزلت الآية .

{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } شح النفس هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك ، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين .