فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال : { والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } المراد بالدار : المدينة ، وهي دار الهجرة ، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان : أنهم اتخذوها مباءة : أي تمكنوا منهما تمكناً شديداً ، والتبوّأ في الأصل إنما يكون للمكان ، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل ، وقيل : إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور ، والتقدير : واعتقدوا الإيمان أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي . ويجوز أن يكون على حذف مضاف : أي تبوءوا الدار وموضع الإيمان ، ويجوز أن يكون «تبوّءوا » مضمناً لمعنى لزموا ، والتقدير : لزموا الدار والإيمان ، ومعنى { مِن قَبْلِهِم } من قبل هجرة المهاجرين فلا بدّ من تقدير مضاف ، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين ، والموصول مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } أي لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً وغيظاً وحزازة { مّمَّا أُوتُواْ } أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك . وفي الكلام مضاف محذوف : أي لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة أو أثر حاجة ، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال :

«إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين - وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم - وإن أحببتم أعطيتهم ذلك ، وخرجوا من دياركم » ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين وطابت أنفسهم { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الإيثار : تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة ، يقال : آثرته بكذا : أي خصصته ، والمعنى : ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي حاجة وفقر ، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت ، وهي الفرج التي تكون فيه ، وجملة : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في محل نصب على الحال ، وقيل : إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة ، ومنه قول الشاعر :

إن الربيع إذا يكون خصاصة *** عاش السقيم به وأثرى المقتر

{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } قرأ الجمهور : { يُوقَ } بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف . وقرأ الجمهور : { شُحَّ نَفْسِهِ } بضم الشين . وقرأ ابن عمر وابن أبي عبلة بكسرها . والشحّ : البخل مع حرص ، كذا في الصحاح ، وقيل : الشحّ أشدّ من البخل . قال مقاتل : شحّ نفسه : حرص نفسه . قال سعيد بن جبير : شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه فقد وقي شحّ نفسه . قال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس ، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع . وقال ابن عيينة : الشحّ : الظلم . وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعاً من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك ، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى «من » باعتبار معناها ، وهو مبتدأ وخبره { هُمُ المفلحون } والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب .

/خ10